بحكم القانون تلتزم المصارف بالعقوبات الدولية المفروضة على الأفراد، المؤسسات، والدول أيضا، وأي تهاون في تطبيقها قد يُعرض البنوك المخالفة، والدول الحاضنة لعقوبات جزائية مغلظة. تتخذ بعض الدول المعرضة للعقوبات خطوات استباقية لمواجهة العقوبات المالية المتوقعة، وتنشط في تكديس العملات الصعبة في خزائنها، وفتح حسابات بأسماء شركات، وأفراد في دول متفرقة حول العالم لمواجهة الأخطار المستقبلية. لا يمكن إخفاء تلك الحسابات عن الدائرة الضيقة للرقابة المباشرة التي تمارسها البنوك على فروعها المختلفة، أو ربما رقابة البنوك المركزية، إلا أن سياسة (غض الطرف) عادة ما تمارس لأهداف خاصة مرتبطة بالعوائد المالية، أو المواقف السياسية!.
فالعراق على سبيل المثال، نجح في تكديس مليارات الدولارات النقدية في حسابات خارجية، وفي خزائن البنك المركزي، وخزائن أخرى، يُقال إن بعضها كان مطمورا في رمال الصحراء وبين البساتين الرئاسية. نجح العراق في تجاوز محنة الحظر الدولي على حساباته الخارجية وتعاملاته المالية لفترة من الزمن، ونجح في توفير احتياجاته الضرورية بعيدا عن العقوبات الدولية!.
العراق وجد أيضاً في تهريب النفط وبيعه عبر بعض الموانئ القريبة طريقة أخرى لتوفير المال الذي استخدم بعضه في تمويل صفقات مشبوهة، وبعضه الآخر حُوّلَ إلى حسابات خاصة خارج العراق عن طريق أطراف (وسطاء) خارجية.
إيران تعرضت أيضا إلى عقوبات دولية متتالية نجحت في التحايل على معظمها، إلا أن التحايل الإيراني كان عن طريق بنوك وشركات إيرانية مسجلة في دول غربية، إضافة إلى بنوكها العاملة في بعض دول المنطقة. نجحت إيران في استغلال شركات عالمية تحت إغراء العقود النفطية الضخمة، فدخلت معها في مقاصة حققت لها هدف التمويل والتزود بالاحتياجات الضرورية عن طريق وسطاء نافذين.
التحايل على العقوبات الدولية ليس بالأمر الصعب، إلا أنه ليس بالأمر الهين أيضا، فكفاءة التنفيذ تعتمد على اللاعبين الرئيسيين، وقدرتهم على ممارسة الضغط على الساسة لغض الطرف عن عمليات ضخمة تحقق لهم الأرباح المجزية، وإن كانت محرمة وفق القرارات الدولية.
يبدو أن العقوبات المالية الأخيرة المتخذة ضد إيران باتت أكثر شدة، وحزما من العقوبات السابقة، ما ساعد في فضح بعض التجاوزات المصرفية المخالفة للعقوبات الدولية، والتي تُنبئ بكشف الغموض عن تجاوزات أخرى حدثت في بعض القطاعات المصرفية العالمية.
نقلت صحيفة «الشرق الأوسط» عن مصادر مطلعة قولها «أن الحكومة الإيرانية تستخدم مصرفا صغيرا في ألمانيا للالتفاف على العقوبات الدولية وتنفيذ عمليات سرية للتحايل على الحظر المفروض على شركات إيرانية تشملها القائمة السوداء». وتشير صحيفة «وولستريت جورنال» إلى أن عناصر من هيئة الصناعات الدفاعية الإيرانية وهيئة الصناعات الجوية، والحرس الثوري شركاء في ملكية البنك المتهم بتمرير عمليات التحايل على الحظر الدولي. تأسيس البنوك الصغيرة دوليا كواجهة لعمليات مشبوهة ليس بالأمر الجديد، فهناك بعض الدول التي أنشأت مصارف متخصصة في غسل أموال المخدرات، وتمرير عمليات مالية على علاقة بصفقات أسلحة؛ بل إن بعض دول أميركا الجنوبية تعتمد في إيراداتها على ما تجنية من ضرائب، وحصص من من مصارف ضليعة في عمليات غسل الأموال، وتمويل صفقات الأسلحة المحرمة؛ و التي يمتلكها بعض الساسة، أو زعماء العصابات الدولية المتوشحين برداء الساسة ورجال المال والأعمال.
الحكومة الألمانية أعلنت أنها ستفرض رقابة مشددة على المؤسسات المالية الإيرانية في ألمانيا، وهو أمر جيد، إلا أن الرقابة المشددة يفترض أن تكون حاضرة في جميع الأحوال، فالقطاعات المصرفية لا يمكن تركها دون رقابة صارمة تضمن سلامة المصارف والدول أيضا. العمليات المالية المشبوهة قد تقوض أركان المصارف وتؤدي في بعض الأحيان إلى إغلاق المخالف منها للقرارات الدولية بعد تكبيده غرامات مالية ضخمة، أو ربما تجاوزت العقوبات المتخذة البنك المخالف إلى الدولة الحاضنة التي ستتهم بأنها لم تقم بدورها في فرض الرقابة الصارمة على قطاعها المصرفي.
قطعا، لن يحدث مثل ذلك للدول الغربية، كألمانيا على سبيل المثال، إلا أن الأمر سيكون مختلفا مع الدول العربية المُستضعفة والتي يُطبق عليها مالا يُطبق على الآخرين. بعض الدول العربية تحتضن فروعا لمصارف أجنبية ربما سببت لها مستقبلا مشاكل قانونية في تعاملاتها المالية، خاصة مع ضعف الرقابة المصرفية التي يفترض أن تكون أكثر قوة مما هي عليه الآن.
تجميد الحسابات ووقف التعاملات المالية مع الشركات والأفراد المدرجين في القائمة السوداء الدولية الأخيرة قد لا يكون كافيا طالما أن هناك تعاملات تجارية، و مالية تمر عبر وسطاء في المنطقة، أو في دول غربية لمصلحة جماعات مرتبطة ماليا، وتنظيميا بمن وردت أسماؤهم في قائمة الحظر الدولي الأخيرة.
الرقابة الصارمة على القطاعات المصرفية، وتدقيق تناقلات الأموال بين المصارف المحلية من جهة، وبينها وبين المصارف العالمية من جهة أخرى، إضافة إلى تشديد الرقابة على التجارة الخارجية يمكن أن تحقق الحماية الكافية للدول الخليجية وقطاعاتها المصرفية من تبعات مخالفة القرارات الدولية التي يمكن أن تكون موجهة للإضرار بالمصالح الخليجية على وجه الخصوص.
تعازينا للدكتور الجاسر
خالص العزاء وصادق المواساة نتقدم به لمعالي الدكتور محمد الجاسر، محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي، بوفاة والده الشيخ سليمان بن محمد الجاسر، سائلين الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يلهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
****
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM