انتهى عقد التسعينات من القرن الماضي بموت الاشتراكية التي أنهكتها السياسات الاقتصادية المدمرة إلى أن أتت عليها وبقيت الرأسمالية منفردة ومعجبة بنفسها لكن القرن الجديد وفي عقده الأول لم يمهلها طويلا حتى صرعتها الأزمة المالية العالمية وسبب موتها سريريا هو السياسة التي تستمد قوتها من أساطين المال البنوك وشركات السلاح والأدوية فهم الداعمون لمن يريد الوصول إلى سدة الحكم.
قد يرى البعض أن الرأسمالية انتهت فعليا وعمليا وان كل ما يجري الآن هو مرحلة انتقالية بين الماضي والمستقبل الذي سيبرز نظاما جديدا وسينقض هذا الاعتقاد الكثيرين أيضا لكن الحقائق تثبت أننا متجهون إلى عالم جديد اقتصاديا تتمازج فيه السياسة والاقتصاد بنفس قوة التأثير.
ومن يسترجع أحداث العامين الأخيرين سيجد إن الكثير من مبادئ الرأسمالية تحطم فمن تدخل حكومي بأسواق المال وبشركاته والبنوك تحديدا إلى مرحلة - قوانين الإصلاح- التي أصبحت اللغة السائدة على لسان كل الدول الكبرى تحديدا ذات المنبر الرأسمالي وعلى رأسها أمريكا فنظام الإصلاح الصحي يقدم رعاية حكومية اكبر للمواطنين لكنه يعيد منهج الريعية إلى مجتمع يفترض أن يكون قد تجاوز هذه النقطة بمراحل كبيرة لكنه اكتشف بعد عقود من التوسع الاقتصادي إن 20 بالمائة من مواطنيه لا يتمتعون برعاية صحية لائقة وهذه نسبة كبيرة لدولة تمثل ربع الاقتصاد العالمي.
لكن الأهم هو قانون الإصلاح المالي الذي فرض السيطرة الحكومية على اكبر لاعب ومؤثر بالناتج الوطني الأمريكي وهو القطاع المالي حيث يشكل 45بالمائة من الناتج الوطني بعد أن تخلت أمريكا عن التأثير الصناعي باقتصادها منذ عقود فلم يعد له دور سوى بنسبة 9 بالمائة فقط من مجمل ما تنتجه أمريكا والأخير هو الوحيد الكفيل بخلق فرص العمل الكثيفة بينما يبقى الأول محدودا جدا بإضافة وظائف جديدة نظرا لطبيعته التي لا تحتاج إلى عدد كبير من الموظفين بقدر ما هي بحاجة لعقول متخصصة فمصنع برأس مال مليار دولار قد يشغل قرابة 1000 ألف عامل وموظف بينما شركة مالية بنفس رأس المال قد لا تحتاج إلى أكثر من 50 إلى 100 موظف فقط بينما الانعكاس الأهم هو على الميزان التجاري فعندما تضعف الصناعة وطاقتها الإنتاجية فانك ستستورد أكثر وهذا سيكون بصالح المنافسين كالصين وألمانيا الأكثر تشغيلا للعمالة الوطنية فأنت لن تحتاج إلى منتج مالي كالمشتقات لكنك بالتأكيد ستحتاج إلى سلعة حيوية تستخدمها في شتى المجالات.
إن هذه الثورة الإصلاحية بقوانينها التي تفرض تحولات جذرية في منهجية اقتصاد أمريكا على وجه الدقة تبرز بشكل جلي أننا متجهون إلى واقع اقتصادي جديد ستتضح معالمه خلال العقدين القادمين على ابعد تقدير فأمريكا تريد العودة إلى بناء اقتصاد صناعي من جديد والمنافسة مع العالم بإطار التفوق التكنولوجي والخبرة الطويلة بالإنتاج ولكنها بنفس الوقت تريد من خلال كل ذلك أن يكون موقف الحكومة متوازياً مع التأثير الذي تلعبه شركاتها في تحديد منهجية سياساتها الداخلية والخارجية والتي كبدتها ترليونات من الديون ولذلك فان المخاطر القادمة كبيرة إذا لم يكن الانتقال سلسا فعندما تقوض تأثير من يقدمون نصف أرقامك الإنتاجية التي تجعلك محافظا على مركزك الأول عالميا فلابد من تعويض ذلك بقطاعات أخرى ولكن هذه الأخيرة كالصناعة والزراعة ستحتاج وقت ليس بالقصير كي تعود لسابق عهدها أو للمنافسة الحقيقية وستتطلب ضخ أموال ضخمة جدا كاستثمارات وتحاول أمريكا أن تعيد القطاع المالي ليلعب هذا الدور بعد أن تخلى عنه نتيجة حصوله على أرباح كبيرة من خلال المنتجات المالية الخطيرة التي أحرقت آلاف البلايين من ثروة العالم في عصر العولمة الاقتصادية ولعل من يرى أن ما حدث هو أمر دبر بليل فان تفسيره إذا كان مقنعا يقوم على مبدأ حرق الثروات عالميا لكي تستطيع اللحاق بما فاتك من مراحل تطور الاقتصاد بجوانب أكثر حيوية وفائدة بعد أن أصبحت الصين وبعض الدول هي مصنع العالم فكان لابد من القيام بإحداث هزات ذات عمق وتأثير بالغ كالذي يعيشه العالم الآن .
ولعل مرحلة الرئيس أوباما ستسجل بأنها مرحلة قوانين الإصلاح التي تأمل من خلالها أمريكا الانتقال إلى فضاء اقتصادي يسمح لها بالمحافظة على مكانتها الدولية لكنها لن تكون سهلة فقانون إصلاح الطاقة رفض ولن يكون إعادة بنائه وتمريره بالأمر السهل فمازالت هناك قوى تريد أن تحافظ على النمط القديم وبالتالي فان حتى ما اقر من قوانين أخرى سيكون رهين القدرة على تنفيذه وعدم بروز عراقيل ومطبات تجعله معطلا أو تقلل من أثره.
العالم فقد بوصلته الاقتصادية بعد أن أحست معاقل الرأسمالية بخطورة ما وصلت إليه من تخلخل بهيكل اقتصادها وتريد الآن إعادة الأمور لنصابها الصحيح ولكن ذلك سيكون رهين القدرة على تنفيذ هذا التحول ومعرفة حجم الأموال المطلوبة لتنفي هذه وإذا ما كانت تستطيع تأمينها وكذلك هل هي بمكان يسمح لها بمقارعة من سبقها في زيادة الإنتاج والتوسع الصناعي الهائل فالصين اليوم أصبحت اكبر مستهلك للطاقة عالميا وهذا يحدث للمرة الأولى أن تتراجع أمريكا عن هذا المركز وثلث رافعات الموانئ عالميا تقبع في موانئ الصين أيضا وتحاول أمريكا تحجيم اقتصاد الآخرين من خلال المطالبة برفع الدعم عن الطاقة عالميا لتقليل المنافسة مع الآخرين وكذلك سياسة الإبقاء على الدولار كعملة احتياط أساسية بالعالم وتسابق الزمن لتحقيق كل هذه المعادلات وغيرها في اقصر زمن ممكن وبنفس الوقت تريد إصلاح مبدأ العلاقة في قوى الحكم والتأثير داخل بيتها لان مشروع ضخم مثل هذا يتطلب دورا مركزيا كبيرا ولكن النجاح يبقى بعلم الغيب وعلى دول العالم وخصوصا في منطقتنا الاستعداد مبكرا لكل هذه التحولات فإنها ستحمل فرصا كبيرة للنفاذ إلى ساحة المنافسة الاقتصادية والاستفادة منها باكتساب قوة وتأثير كبيرين في الساحة الدولية.
mfaangari@yahoo.com