Al Jazirah NewsPaper Friday  23/07/2010 G Issue 13812
الجمعة 11 شعبان 1431   العدد  13812
 
هل الإنسان حُرٌّ في جسده؟
د. محمد بن سعد الشويعر

 

سؤال قابل للنقاش، نوجهه إلى الشباب، خاصة أولئك الذين يخاطرون بأرواحهم فيهلكون أنفسهم ويتعدون على الآخرين، وهو جدير بالمناقشة؛ إذ كثير من الشباب يمتطون المخاطر ...

....في قيادة السيارات، أو في سباقها وسباق الدراجات، أو تسلق الأشجار أو الجبال أو غير ذلك من مخاطر تحدق بالجسم، مما يلحق به الضرر أو العاهات، أو الموت له ولغيره، فيكون بهذه المخاطر قد جنى على نفسه أو غيره.

وفي اندفاع كثير من الشباب لا يضعون هذه الأمور في الحسبان، وإذا بيّن لهم العقلاء العواقب يقول بعضهم: جسمي وأنا حُرّ فيه، أو جسمي وأنا أدرى به! فكم من فاجعة مرّت بالمجتمعات، ونفس زهقت بغير حق..

فهل هذا الجواب صحيح يستحق الموافقة عليه، أم القائلون لا يحسون بالمسؤولية، ولا يعرفون منفعة أنفسهم، بل لا يدركون الآثار والمخاطر التي يسوقون أنفسهم إليها.. ولا ينفع الندم بعدما تقع الفأس في الرأس حسب المثل.

لقد نُهي المسلم عقيدة عن التفريط في النفس؛ لأنّ أول ما يُحاسب عليه في قبره: عن عمره فيم أمضاه، وفيم استعمله.

إنَّ الوقاية يجب الاهتمام بها قبل العلاج.. ومن هنا يجب أن نعرض وجهة النظر هذه على المحك الشرعي الذي به المجتمع الإسلامي؛ فالإنسان لم يخلق عبثاً ليموت كيفما شاء وليتصرف في نفسه كيفما يريد؟..

يقول سبحانه في بيان لمهمة الإنسان، وسبب وجوده: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ?(56 -58 سورة الذاريات).

ويقول سبحانه: ?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ? (115) سورة المؤمنون.

فالجسم ملك لله خلقه لمهمة أساسية هي عبادة الله وحده، وليمتحن الإنسان ماذا يعمل في هذا الجسم أو جسم غيره، باعتداء أو تهوّر يتلف به أنفساً معصومة. وقد شدّد الله في قتل النفس بغير حق كما في سورة النساء (الآيتان 92 - 93).

فالله سبحانه قد منح الإنسان سمعاً وبصراً وفؤاداً؛ ليدرك بهذه الحواس ما حوله، وليعرف ما أوجب الله عليه في حياته من مهمات نحو الآخرين، والأساس الذي خُلِقَ من أجله، وبشرع الله يميز ما له وما عليه، نحو نفسه ونحو غيره.

ولما كان ابن القيم رحمه الله يقول: (للعبد بين يدي الله تعالى موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف).

وما ذلك إلا أن هذه المواقف من حق الجسم على صاحبه؛ لأن العبادات، وفي مقدمتها الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام لمكانتها الرفيعة، لا تُؤدَّى إلا بالجسم، اطمئناناً بالقلب وخشوعاً بالجوارح وحركات بالجسم كله، وكل عضو فيه له حق المشاركة في الصلاة، التي هي عبادة لله، وقد فُرضت على سائر الأمم، واختص الله عز وجل فرضها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم آخر الأمم، ليلة أسري به عليه الصلاة والسلام، والتهاون فيها أو تركها ضياع للعمل كله.

فنقول للشباب: إن من شدة أهمية الجسم جاء الأمر بالمحافظة على الجسم البشري، ورسخ الأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الوعيد الأليم عقاباً لمن أقدم على قتل نفسه انتحاراً واختياراً، أو هروباً من مشكلة مرّت به، ظاناً أنه بذلك يريح نفسه من المتاعب، وما علم أنه اعتدى على هذا الجسم، الذي هو ملك لله سبحانه، وأوقع نفسه في معضلات عويصة سواء عمل هذا بجسم نفسه، أو أعان غيره، أو كان الاعتداء على جسم غيره، كما يفعله بعض الشباب المتهورين فينتج قتل نفس بريئة بغير حق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في يومكم هذا..».

والنفس التي هي الروح وسرُّ الحياة في الجسم البشري، هلاكها والتفريط فيها من أشد وأنكى المصائب عندما يفرَّط فيها، أو تُنتهك حرمتها، ومن كان سبباً في ذلك ارتكب الأشد والأنكى الذي يوجب الخسارة الأبدية ما دام بغير حق.

فقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قتل نفساً بغير حق أو تسبب في قتلها عمداً فهو في النار»، و « مَنْ قتل نفسه بشيء فهو يجأ به نفسه في نار جهنم: إن كان حديداً أو حجراً أو غيرهما أبداً في نار جهنم، وإن كان سماً فهو يحتسيه أو شيئاً قاتلاً يعذَّب به» أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

ومن هذا نستنتج لماذا كانت الأعمار ومقاديرها بيد الله، وسراً غامضاً لا يعرفه الإنسان، ولا يعرف عن نفسه متى يموت، وإنما هي آجال يقدرها الله، وعلى كل فرد أن يستثمر هذا العمر في طاعة الله والعمل بأوامره جل وعلا، وشرعه الذي شرع لعباده؛ حتى يجني الثمرة الطيبة بما حرص عليه.

ألا ترى أن الطالب يحرص على المذاكرة، وبذل الجهد في المذاكرة، وأداء الواجبات، وأحياناً يحرص عليها والداه بالدروس الخصوصية؛ حتى يحصل له ما يريد في مستقبل دراسته، وفي حياته العملية.

بل إن الآباء والأمهات ومن حول الطالب أو الطالبة من ذوي القرابة، يهتمون بالنصح والمتابعة، والحرص عليهما، ويبحثون عن سبل للتقوية لبعض المواد رغبة في نتيجة مُرْضية، وتقديرات تحقق المطلوب.

وإن من رعاية الله سبحانه للجسم البشري أن جعل الغذاء قواماً له؛ فأخرج سبحانه للإنسان الطيبات من المأكل والمشرب؛ لأنها نافعة ومفيدة؛ حتى يقوى هذا الجسم، وينشط على أداء أمر الله، وعلى كسب الرزق النافع، والمعاش الذي به قوام هذا الجسم؛ حتى يتقوى في أداء مهمته في الحياة، كل بحسبه ومقدرته.

فقد أحلَّ الله الطيبات؛ لأنها نافعة للجسم، ومعينة على العمل، وحرَّم الخبائث التي تدخل الجسم فتضر به وتهلكه، وتفتت خلاياه، كالخمور والمخدرات وغيرهما مما يؤكل أو يُشرب. يقول سبحانه: ?قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ? (32) سورة الأعراف.

وبيَّن سبحانه عن مهمة أنبياء الله مع أممهم، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، أنهم يبينون لهم الطيبات فيحلونها لهم، ويعرفونهم بالخبائث فيحرموها عليهم، والطيبات كل ما فيه نفع وغذاء للجسم البشري، والخبائث كل ما فيه ضرر على الجسم، وهلاك لصاحبه، وبيّن الله سبحانه وتعالى ذلك في آيات عديدة من كتابه الكريم حيث يقول سبحانه عن نبينا: ?يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ? (157) سورة الأعراف.

فكل شيء أباحه الله فيه نفع للإنسان وجسمه واستقامته، وكل شيء حرّمه الله فإن فيه ضرراً للجسم ومضرة على أنسجته؛ لأنه خبيث، حتى لو كان علاجاً من أمراض؛ لأن الله ما جعل شفاء عباده فيما حرّم عليهم، سواء كان هذا في المطعم أو المشرب، كأكل لحم الخنزير، وشرب كل مسكر كالخمور، ومفتّر كالمخدرات والدخان، وما أشبهها مما هو بيّن الضرر على الجسم، سواء كان ضرراً عاجلاً أو ضرراً بطيئاً.. فيجب إخضاع ذلك الشيء للتحليل للتعرف على نسبة السموم الضارة فيه لاجتنابه حتى لا يقع الإنسان تحت طائلة الأضرار على أنسجة وخلايا الجسم التي نهى الله عنها بقوله الكريم: ?وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا? (29) سورة النساء.

ويعاقب الله على عمل أهل الجاهلية الأولى، ومن يسايرهم في كل عصر ومصر، بقتل الأولاد، مخافة الفقر فقال تعالى: ?وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ? (8 -9) سورة التكوير. فالله سبحانه رؤوف رحيم بعباده، ولا يرضى لهم الكفر.

فحافظ أيها الشاب على جسمك مأكلاً ومشرباً وعناية، وعدم الإضرار بالآخرين؛ لتكون قوياً وسنداً لأمتك ضد الأعداء.. ومن رحمة الله أن جعل في جسمك جنوداً خفية تدافع كل خطر يدخل عليك؛ فساعد بالرفق وتعاطي الحلال والابتعاد عن الرعونة وكل حرام؛ لأن وراء ذلك مصالح لك في جسمك، يعرفها الأطباء المختصون أولاً، ولأمتك وأهلك ثانياً. والله المستعان.

سيل الطوفان في دمشق

كان ذلك في اليوم الثاني عشر من شهر شوال سنة تسع وستين وستمائة (669هـ)، ذكره المؤرخون لأنه لم يسبق في حياة كل منهم مثله، وقد ذكره شهاب الدين النويري في كتابه نهاية الأرب، فقال: حُكِي أن فقيراً يعرف بالخبر حضر إلى دار نائب السلطنة بدمشق، قبل هذه الحادثة وقال: «عرفوا الأمير أني أريد أعدو إلى بعلبك» فقال له الأمير: «رح، اجر»، وضحكوا منه، فتوجّه وهو ينذر الناس بالسيل فضحكوا منه، فما أحسوا إلا والسيل قد هجم.

يقول: هذا اليوم هو يوم عيد عنصرة اليهود، جاء فيه إلى دمشق سيل عظيم في الساعة الثامنة من النهار، وعلا على سور دمشق قدر رمح، وفي بعض المواضع أحد عشر ذراعاً، ودخل من باب الفراديس بعد أن خرّب جسره، وخرّب جسر باب السلامة وباب توما، ووصل إلى المدرسة الفلكية، وصار فيها مقدار قامة وبسطة، واستمر ثلاث ساعات من النهار، وهبط.. وكان مبدأ هذا السيل أنه انعقد على جبال بعلبك غيم متكاثف، فسُمع لرعده دويّ هائل في يوم السبت الحادي عشر من شوال، وكان بذلك الوادي ثلوج كثيرة فوقع المطر على الثلوج فأذابها وسال في يوم الأحد من جهة عين الفيجة، بعد أن حطم فيها صخوراً عظيمة ساقها بين يديه.

واقتلع أشجار جوز عادية، وانتهى إلى دمشق، وخرّب عدة كثيرة، من دور العقبية، وخرب حيطان الميدان في دمشق وقطاير البساتين - وهي تستعمل في ري البساتين - وأهلك خلقاً كثيراً من الروم والعجم، كانوا قد قدموا حجاجاً، ونزلوا بالميدان، فغرقوا عن آخرهم، هم وجمالهم ودوابهم.

وأغرق من الحيوانات على اختلاف أجناسها مما لا يعد لكثرته.

وردم الأنهار بطين أصفر، واقتلع الأشجار من أصولها، ودخل السلطان بعد ذلك بأيام إلى دمشق، فما وجد بها ماء ولا حماماً يدور، وشرب الناس من الصهاريج والآبار.

ويقال: إنه هلك بهذا السيل عشرة آلاف نفس، وأخذ الطواحين بحجارتها.

وقد ذُكِر شيء، قبل حادثة السيل بثلاثة أيام، بأن الشيخ خضر شيخ السلطان دخل إلى دمشق، وعمل لأصحابه بسيسة عشرة قناطير بالدمشقي، فأكلوا منها، وحضر المغاني ورقصوا على بقية البسيسة بأرجلهم، ولم يرعوا النعمة، فما أفلح بعد ذلك، إلى آخر ما ذكر في ذلك السبب، فكانت حادثة السيل هذه وخرج السلطان من الكنيسة على صورة منكرة.

(نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين النوري ج30 ص 176 - 177 الطبعة الأولى محققة عام 1410هـ - 1990م).



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد