يعد الجشع من أهم غرائز الإنسان وأكثرها هياجاً، وقد يصل حدود اندفاعها إلى حد التطرف إذا صاحبها هوس التملك والنفوذ، وقد برع وليام شكسبير في تصوير الجشع في شخصية شايلوك المرابي اليهودي الذي يقرض شخصاً ما مبلغاً من المال ولأجل معين، ويشترط ثمن إقراضه أضعافا من المال بشرط واحد، وهو أنه في حال عجز المدين عن الدفع في الوقت المحدد فإن المرابي سيقبض الدين رطلا من اللحم يقتطعه من المكان الذي يختاره من جسد المدين المسكين، وعادة ما يوافق المحتاج على هذا الشرط من أجل أن يسد حاجاته المعيشية، لكن ربط شكسبير بين الجشع وشخصية اليهودي لم يخل من نظرة عنصرية، فالجشع نزعة سلطوية وصلت في ذروة سطوتها في عصور الإقطاع الذي خضعت فيه السلطة الدينية لأصحاب النفوذ من أجل تشريع إقطاع الأرض ومن عليها.
استغل فلاسفة الرأسمالية ومؤسسوها الأوائل سمة الجشع والطمع عند الإنسان وحبه المفرط في التملك والثروة في انقلابها على الإقطاع، لكن إطلاقها في البدء كان بلا قيود وسبباً لكثير من المآسي والكوارث الإنسانية، فقد أدت متلازمة السلطة مع الجشع أيضاً إلى رغبة القلة من أصحاب النفوذ إلى تملك الأراضي واحتكار محاصيلها الزراعية، لكن تعاقب المراحل أدى إلى تقنينها ثم أجل السيطرة على توحشها، وكان لفلسفة العقد الاجتماعي والديموقراطية الأدوار الأهم إلى وضع حد لاندفاع الجشع ورغبته في امتلاك المال والأرض بلا حدود.
في صدر الإسلام أضعفت قوتا الإيمان والجهاد في سبيل الله دوافع الجشع، وظهر ذلك جلياً في رفض الخليفة عمر بن الخطاب إقطاع أرض السواد لقادة الفتح ضماناً لحق سكان الأراضي المفتوحة، وذلك لمنع الاستئثار بالأراضي الزراعية في ملكية الأقلية، وكان ذلك القرار العمري تاريخياً، وكان أثره بالغاً في انتشار الإسلام في الشمال العربي،كما رفض علي بن أبي طالب ذلك، وقد ورد عنه قوله: (لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت السواد بينكم). وقد حذر علي واليه على مصر، الأشتر النخعي، من اتباع أسلوب الإقطاع في كتاب قال فيه: (إن للوالي خاصة وبطانة وفيهم استئثار وتطاول... لا تقطعن لأحد من حاميتك وحاشيتك قطيعة)..
لكن الجشع الذي يدعمه النفوذ فتح بعض أبواب الفقه على مصراعيه لتبرير الاستغلال الواسع للأراضي الزراعية في عصري الخلافة الأموية والعباسية وتطوير نظام الخراج والضريبة، وإن اختلف عن الإقطاع باعتبار الأرض مملوكة للأمة، ويتم إيجارها مقابل أن يدفع المغلوب على أمرهم الضريبة، وقد كانت آثارها أقل بكثير من تبعات الإقطاع الأوروبي..، لكن مع ذلك أدت إلى فقر ومجاعات كنتيجة طبيعية لاحتكار ديوان الخليفة للخراج.
في العصر الحديث يعيش المجتمع العربي في واقع يكتنفه الغموض، فالإرث الفقهي في إقطاع الأراضي تبدل من نظام المؤاجرة إلى تشريع تملك الأراضي العامة أو منحها، وقد استفادت السلطة من الدخول غير المقنن لعصر الرأسمالية، والتي تستغل الجشع كغريزة طبيعية تدفع الإنسان للعمل وجمع المال، لكنها تخضع في مهدها إلى نوع من المساواة والتكافؤ في الفرص، وذلك من خلال تطبيق قوانين تحمي الممتلكات العامة وتفرض تكافؤ الفرص بين الناس، وقبل ذلك تبني الأسس والمبادئ التي تحمي الناس من توحش الرأسمالية، وفي نفس الوقت تساعدها لإنعاش الاقتصاد الوطني، لذلك يبدو أن مهمة الرأسمالية في نهضة اقتصاد المجتمع العربي شبه مستحيلة، إذا لم يتخل النظام العربي عن بعض تقاليده التي حققت له الرأسمالية ما لم يحققه الفقه الإسلامي في القرون الأولى، وهو امتلاك أكبر مساحة ممكنة من الأملاك والأراضي، وهو ما قد يؤدي إلى تقلص الأراضي والممتلكات العامة بعد أن يتم تحولها إلى ملكية خاصة.