تاريخ بعض الزعامات العربية، وبخاصة منه ما يتعلَّق بقضية فلسطين، تاريخ ملطخ بالخزي والعار، فهناك من الزعماء العرب من قاموا بلقاءات منها ما فاحت رائحتها النتنة حين القيام بها،....
.....أو بعد ذلك بقليل، وإن حرص على أن تكون سرية، ومنها ما لم تفح رائحتها إلا بعد سنوات طالت أو قصرت، وظل أولئك الزعماء عقوداً لا يذيعون سر تلك اللقاءات أو يشيرون إليها؛ إما خجلاً من مواطنيهم المبتلين بهم من سوء ما قاموا به عندما كانت لا تزال هناك بقية من حياء، أو خوفاً من غضب هؤلاء المواطنين الذين كانت ما تزال فيهم عروق تنبض بالغضب مما يستدعي الغضب.
على أن ذهاب من ذهب ليلقي خطاباً في الكنيست الصهيوني؛ مسمياً فعلته التي فعلها كسر الحاجز النفسي، كان بداية السفور عن وجوه اللقاءات مع الصهاينة ثم كانت مفاوضات كامب ديفيد، التي كان راعيها الرئيس الأمريكي، جيمي كارتر، أشد حرصاً من كاسر الحاجز النفسي على عدم الاندفاع في الاستجابة لشروط مجرم الحرب، مناحيم بيجين؛ أملاً في أن يُتوَاصَل إلى ما قد يرضي عدداً من الزعماء العرب، الذين كانت لديهم قابلية التخلي عن الصمود أمام العدو المغتصب للأراضي العربية، بل إن وزيري خارجية الزعيم العربي المفاوض؛ واحداً بعد آخر، كانا ضد تلك الاستجابة للشروط الصهيونية في تلك المفاوضات. وهكذا (صلح الجرب)، كما يقول المثال الشعبي. ومع مرور الأيام ازدادت معرفة الكثيرين بأخطار اتفاقية كامب ديفيد وتداعياتها المأساوية.
ثم جاء عدوان صدام حسين الأرعن على الكويت واحتلال ذلك القطر العربي لإلغاء وجود دولة مستقلة لينزل كوارث لا تحصى بأمتنا وليس المجال، هنا مجال تعداد هذه الكوارث أو أكثرها لكن تجدر الإشارة - والحديث في المقالة عن المفاوضات مع الكيان الصهيوني - إلى أن من نتائج ذلك العدوان أن الزعماء العرب الذين لم يكن يظن أنهم سيقبلون الجلوس على مائدة المفاوضات مع ذلك الكيان، استجابوا طائعين مختارين لدعوة الإدارة الأمريكية إياهم بأن يجلسوا للتفاوض معه في مؤتمر مدريد. وكانت تلك الاستجابة من أجل الخدمات التي قدمتها إدارة بوش الأب للصهاينة، كما ذكر ذلك وزير خارجيته، جيمس بيكر؛ إذ كانوا يتطلعون إلى ذلك أكثر من أربعين عاماً على حد قوله.
وكان مما حدث في مؤتمر مدريد تألق الدكتور عبدالشافي والدكتورة حنان عشراوي غير أن هناك من لعب وراء الستار، فقام بمفاوضات أوسلو، التي أدت إلى اتفاقية ما زال الفلسطينيون - وسيظلون - يعانون من آثارها السلبية الخطيرة على قضيتهم، التي هي قضية العرب والمسلمين عموماً، ومنذ توقيع تلك الاتفاقية وأمر أن يسيران جنباً إلى جنب، أولهما تهويد الأراضي الفلسطينية، التي احتلتها الصهاينة عام 1967م بحيث أصبحت المستعمرات (المستوطنات) الصهيونية وما يخدمها من الأراضي تحتل أكثر من أربعين في المائة من الأراضي المحتلة في ذلك العام، أما القدس فعجلة تهويدها سريعة الدوران. والصهاينة بكل صلف ووقاحة يقولون: إنه لا مجال للحديث حولها، فهي قد أصبحت جزءاً من دولتهم، بل عاصمة موحدة لهذه الدولة، وثاني الأمرين مواصلة المفاوضات العبثية بين قادة الصهاينة وزعماء السلطة الفلسطينية مؤيدين من جامعة الدول العربية التي يعلم الكثيرون كيف تدار الأمور فيها. أما غالبية العرب؛ فلسطينيون وعرباً غير فلسطينيين؛ فلا أعتقد أن منصفاً يمكن أن يقول: إنها تؤيد استمرار تلك المفاوضات، أو إن المفاوضات يمكن أن تؤدي استعادة الحقوق التي انتزعها الغاصبون الصهاينة مدعومين دعماً كاملاً من المتصهينيين في الدول الغربية عامة وفي أميريكا خاصة.
الأمة المبتلاة بقيادات منهزمة الإرادة - رغم وجود وسائل لديها بإمكانها لو لم تنهزم هذه الإرادة تحقيق انتصارات تستعيد بها حقوقها - لا يستغرب منها أن تختزل قضاياها المصيرية إلى مهازل يكاد لا يصدقها العقل السليم، في الأيام الأخيرة بلغ مستوى انحطاط تعامل أمتنا المنهزمة إرادتها قيادياً المدجنة شعبياً مع قضيتنا الفلسطينية هو هل تكون المفاوضات مع مجرمي الحرب من قادة الكيان الصهيوني مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة؟ لا أحد يستطيع أن ينكر أن المفاوضات بين القادة الصهاينة وأركان السلطة الفلسطينية، التي كادت تكون مستمرة دون انقطاع منذ اتفاقية أوسلو سيئة الذكر والتداعيات، لم تؤد حتى الآن إلى نتائج إيجابية بالنسبة لجوهر القضية الفلسطينية.
ومما يشاهد على أرض الواقع ما يأتي:
1 - أن قادة الصهاينة - وهم منتخبون انتخاباً يختلف عن انتخاب من يظهرهم الإعلام المضلل بأنهم منتخبون شعبياً من قادة أمتنا - يصرون على أن لا عودة للاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم، ولا انسحاب إلى حدود ما قبل حرب 1967م، ولا قبول للحديث عن القدس ومسجده الأقصى، بل تهويد لها وعمل متقن متواصل بهدف إلى هدم الأقصى في نهاية الأمر.
2 - أن المفاوضات - مهما بدت مهزلة الجدل حول كونها مباشرة أو غير مباشرة - متواصلة بين قادة الكيان الصهيوني المدعومين دعماً واضحاً جلياً من المتحكمين في مسيرة أحداث العالم وزعماء السلطة الفلسطينية المحتلة بمواد اتفاقية أوسلو المجحفة بحق الشعب الفلسطيني، المخولة من الجامعة العربية معروفة التاريخ المثبت لعجزها عن القيام بدور إيجابي، حق متابعة الجري وراء سراب المفاوضات العبثية.
3 - ما يعلنه المغالطون من تمسك بلاءات؛ مثل لا تنازل عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى فلسطين، ولا تنازل عن وجوب انسحاب الصهاينة إلى حدود عام 1967م، ولا تنازل عن إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة ذلك العام بما فيها القدس عاصمة لها.. ما يعلنه هؤلاء هل يوجد من يصدقه في ضوء ما شاهد من تنازلات متتالية؟
4 - يتحدث المتحدثون خداعاً وتضليلاً، عن وجوب قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، لكنهم لا يحددون مدى هذه الدولة؛ سيادة سياسية، وأرضاً شاملة لكل الأراضي المحتلة عام 1967م؛ كما لا يتحدثون عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم؛ ناهيك عما لحق بهم وبإخوانهم الذين وقعوا تحت الاحتلال الصهيوني منذ العام المذكور أو اضطروا إلى الهرب من نير هذا الاحتلال.
والذي يتوقعه كاتب هذه السطور - وقد يكون مخطئاً في توقعه المتشائم - أن المفاوض الفلسطيني مع الكيان الصهيوني لن يظل متمسكاً بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين مع أنه حق أقرته الأمم المتحدة، ولا بالانسحاب الصهيوني الكامل من الأراضي المحتلة عام 1967م؛ ولا بحق الفلسطينيين في إقامة دولة كاملة السيادة؛ أرضاً وبحراً وجواً. وإذا وقعت الواقعة بشطب ذلك التمسك، وتوصل إلى تسوية مع الصهاينة مرعية من الجانب الأميركي؛ فإن كوارث داخلية؛ فلسطينياً وعربياً، ستكون أنكى مما حل بأمتنا من قبل وما يحل بها الآن.