سمعاً.. سمعاً.. أيها الآدميون أنصاف الوحوش، يا مَن تعيشون بهيكل الإنسان، وطباع الوحش، وتتقاتلون على هذا الكوكب الحزين بشراسة لا نظير لها، حتى في عالم الغابات، وترتدون قناع الإنسانية المزور المريع.
سمعاً.. سمعاً.. يا إخوتي المتوحشين؛ فأنا متوحش مثلكم؛ نصفي إنسان ونصفي ذئب!! أما كيف حدث هذا فذلك يعود إلى منتصف القرن الفائت، وتحديداً في الجزء الشمالي من جزيرة العرب؛ إذ كان ظعن القبيلة يسير في صحراء الألم متجهاً إلى مساقط المطر و(قنوف) الغيم؛ إذ لاح لها برق فوق (خبرا البردويل)؛ فسار الظعن تجلد أعقاب الإبل فيه رياح السموم، وتلوذ (جخادب) الجراد في ظل أعضاد النوق حينما تلسعها الرمضاء في جمرة القيظ المهول قبل أن تتطاير في السراب الأشهب البعيد.. آنذاك.. آنذاك كانت أمي البدوية الفقيرة تسير خلف الظعن؛ ففاجأها المخاض ثم لاذت إلى ظل سدرة مصفرّة الأغصان، فتلفتت ذات اليمين وذات الشمال؛ لكيلا يراها الرجال البداة المتجهمون الذين يمتطون الخيل، ويحملون على أكفهم الصقور المبرقعة، وتتبعهم كلابهم السلوقية المخصّصة للصيد.. أقول: لاذت أمي خلف إحدى شجيرات السدر؛ لكي تكابد طلق الولادة، وأعتقد - آنذاك - أنها قالت في سرها: أموت ولا أخبر الرجال، وعليّ تدبر أمري - بمشيئة الله -، وعليه التياسير، ومن ثم أردفت أيضاً: (ظل السدر ولا ظل الرجال)، مع أن ظل السدر يُضرب به المثل في سوء ظلال الأشجار؛ لذلك لاذت بظل تلك الشجيرة في الصحراء، وأسلمت نفسها للقضاء، ثم كشفت عُريها للفضاء، وكانت تكز على أسنانها؛ لئلا يخرج صدى تأوهاتها للخلاء.. بعد ذلك زحفت قليلاً عني، وكنت مجرد (عَلَقة) أو يرقة تتقلب فوق الرمل.
ثم قطعت ردن ثوبها، وجعلته قماطاً لي، وزحفت مبتعدةً عني بعض الوقت؛ فلاذت عدة أمتار؛ لتنظف نفسها من المخاض، وفي تلك اللحظة بالذات لست أدري كيف أحسست بأن شفاهاً تلعق جسدي وأسناناً تبرز منها بعض الأنياب، ورأيت أذنين منتصبتين وعرفاً يهتزّ بوجه الريح، ولما فتحت العينين رأيت ذئبة تقعي فوقي؛ فأخذت أمي بالصراخ، لكن الذئبة لم تأبه ولم يرق لها قلبٌ (لرجاءات) الأم، بل حملتني بفمها الضخم، وسارت عدة أميال في البيداء، وأمي تصرخ ملء آفاق الصحراء.. (نكمل فيما بعد).