قد لا نستطيع القول جازمين إن المجتمع العربي المسلم في طريقه للخروج من الأزمة السياسية الأخطر في عصره الحديث، فالوضع لازال قابلاً للارتداد والرجوع مرة أخرى إلى ثقافة الغضب والالتزام ورص الصفوف، فقد سلم المجتمع بعد النكسة أو هزيمة عقله للتيار الإسلامي المتشدد، والذي رفع شعار الحاكمية لله عز وجل من أجل الخروج من عار الهزيمة العسكرية والسياسية للأمة، والحاكمية لله تعني حسب تعريف الشيخ الدكتور سلمان العودة، كما ورد في محاضرة له بعنوان (الحاكمية لله وحده)»: لا يحول بين المسلم وبين تنفيذ الحكم الإلهي إلا معرفة هذا الحكم، فإذا عرفه استجاب له، سواء أعرف العلة من وراء ذلك أم لم يعرفها، وسواء أوافق هوى الناس أم لم يوافقه، وسواء أوافق هوى النفس أم لم يوافقه، فهذا حكم الله ينقاد له مسلماً بلا حرج. ولذلك، فإن من المهم أن يعرف كل مسلم تحلى بهذه الصفة أن لله عز وجل في كل واقعة حكماً، وهذه قاعدة أصولية مهمة، فما من قضية تقع إلا ولله ورسوله فيها حكم».. فكرة الحاكمية لله ازدهرت في نهاية الستينيات بعد أن استعارها المفكر الإسلامي الشهير سيد قطب من المفكر «أبو الأعلى المودودي»، والذي أرسى مبدأ حاكمية الله عزّ وجل مقابل حاكمية البشر والممثل بآليات المجتمع المدني والديموقراطية وحقوق الإنسان، مما جعل المواطن العامي في متاهة لا حدود لها، فالحاكمية تفرض الغربة والانفصال على المجتمعات الحالية حين تنزع تماماً من عقل الإنسان قدرته على التفاعل والمشاركة في العمل السلمي أو المدني، وتفرض عليه العزلة، وتختزل القرار في الموقعين بإسم الله عزّ وجل، و التي تفضي أحكامهم في نهاية الأمر إلى إعلان الجهاد، وأن الإقرار بالديموقراطية هو إقرار بمنح حق التشريع لأحد من دون الله، ومَن أقر بهذا فهو كافر، ومَن شرّع للبشر شيئاً، فقد نصّب نفسه إلهاً، ومن أقر له بهذا فقد اتخذه إلها.
ومن هنا، تم تحريم الديموقراطية واعتبارها دينا جديدا يجب محاربته، و هم بذلك زرعوا بذور الحروب الأهلية داخل المجتمعات المسلمة.
ما حدث بعد ذلك من تسارع في الأحداث وانقلابات في صيغ الخطاب الإسلامي ثم تخليه بشكل غير مباشر عن رفع شعار الحاكمية و تبنيه مقولات أخرى، مثل المجتمع المدني أو التوقف عن الحديث في الأمر أوالاكتفاء بتقديم الوعظ التقليدي، لكن آثار تلك الحقبة مازالت عالقة في ذهنية ذلك الجيل، ويظهر ذلك في مواقفهم السلبية من التحديث، والذي دائما ما يتم ربطه بالعلمنة، ولعل الحل يكمن في غياب المكاشفات أو المراجعات وكتابة التجارب الذاتية لنجوم لتلك المرحلة، وتظهر المفارقة في أن بعضهم ظهر كمصلح وناقد للسلفية والأممية، ويتجاوز ذكر فكرة الحاكمية في خطاباته، وهل حدث تغيير جذري في الموقف أم أنها لا تزال فكرة حية.
منهج المراجعات والمكاشفات حضاري، وفيه تميز ولا يقدم عليه إلا المفكرون الأفذاذ، وفي اتباعه أفضل وسيلة لإخراج المجتمع من مرحلة التجهيل والإقصاء والانغلاق إلى عصر المجتمع المدني والنهضة، وأرى أن المسئولية تقع على دعاة تلك المرحلة، ففي مراجعاتهم لقضية منهجية الحاكمية على سبيل المثال سنخرج ببعض الأجوية عن كثير من الأسئلة التي مازالت تدور في أذهان تلك الأجيال، وأنا على ثقة أن شخصية وعقلية فذة مثل الدكتور الشيخ سلمان العودة تملك القدرة على تقديم الأجوبة عن تلك الأسئلة العالقة، وخصوصاً أن لديه حضورا إعلاميا بارزا وبرنامجا أسبوعيا يتمتع بنسب متابعة عالية، فالمجتمع يحتاج إلى رؤية صادقة من أجل تجاوز تلك الرؤية، والتي بلا شك كانت نتيجة متوقعة لعصر الإخفاق العربي والمسلم في مختلف المجالات، ومن أجل الوصول إلى إجابات مفيدة للجيل الجديد علينا أن نخرج من أسلوب التجريم لتلك التجارب والاجتهادات الفكرية، فعصر التخلف والفشل ألقى بظلاله على العقل العربي والمسلم، إذ لا يمكن بأي حال إغفال مرارة الهزيمة أمام المد الغربي العسكري في المنطقة وأثرها على الناس