هنالك ضوابط تضعها الأمم الحريصة على بقاء قيمتها الدينية السياسية والفكرية والعسكرية كبيرةً عند الأمم الأخرى، في مسألة تعلُّم لغات أخرى غير اللغة الأم من أهم تلك الضوابط أن تبقى اللغة الأم هي المسيطرة السائدة المستخدمة في مجالات العمل والعلم والتربية والثقافة، وأن يكون تعلم أي لغة أخرى مرهوناً بغرض محدَّد يكفي أن يقوم به بعض أفراد الأمة بحيث يوجهون إلى إتقان لغة ما لمعرفة ما فيها من العلم والمعرفة، ونقل ذلك إلى لغة الأمة الأولى من خلال الترجمة.
|
إن هذا الضابط المهم لا يتخلَّف في مسيرة أية أمة تحترم دينها ونفسها، وتحرص على عدم ضياع هويتها فتاريخ الأمم القديم والأقدم، والحديث والأحدث يؤكد ذلك. وواقع الأمم المعتزة بنفسها، القوية بذاتها في عصرنا هذا يشهد بذلك.
|
تؤكد التقارير والبحوث المعنية (باللغات) الصادرة عن مراكز بحوث معتبرة في أنحاء العالم اليوم أن الأمة العربية هي الأمة الوحيدة التي تهمل لغتها العربية الأم إهمالاً كبيراً مع أنها أعظم لغة على وجه الأرض بشهادة جميع الدارسين في المجال اللغوي من عرب وغيرهم.
|
إن استعراض حالة اللغات في هذا العصر يؤكد ذلك، فالأمة العربية هي الأمة الرائدة في إهمال لغتها، وإحلال لغات أخرى مكانها إحلالاً ثقافياً علمياً تربوياً، ولربما كانت هذه الريادة الوحيدة لهذه الأمة في هذه الحقبة الزمنية المؤلمة من حياتها، وحسبك بأمة ضعفاً، وانهزاماً أن تكون رائدة في مثل هذا المجال.
|
وأترك لكم تأمل أطول الأمم المعاصرة مع لغاتها لتروا من ذلك ما يدهشكم؛ فكلها ترفع لغاتها في المقام الأعلى حتى (الدولة اليهودية النشاز) في فلسطين لا ترضى بغير لغتها العبرية بديلاً في تعليمها وتربيتها وأحاديثها الإعلامية ومحاضراتها، وتظل أمة لغة القرآن أشد الأمم إهمالاً لأعظم لغة.
|
استوقفني لقاء مؤسسة الفكر العربي السعودية مع صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز- وفقه الله - وحديثها عن جهودها المباركة في تأليف عدد من الكتب لإيضاح الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين، وللمملكة العربية السعودية التي حاول وما يزال يحاول حاسدوها في الغرب تشويه صورتها الدينية - خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر - وقد تحدث أمين عام هذه المؤسسة د. محمد بن سعود البشر، عن جهودها خلال عشر سنوات، وأهدى، ومعه أعضاء المؤسسة الكتب الصادرة عنها إلى سموه، كما استوقفني حديث سمو الأمير نايف عن أهمية مثل هذا الدور الذي تقوم به هذه المؤسسة نائبة عن المملكة حكومة وشعباً في مخاطبة الغرب بلغته وطريقته وأسلوبه.
|
إن هذا اللقاء وما قيل فيه جدير بتذكيرنا بالضابط المهم في استخدام لغة الآخرين، وأنه مرتبط بأغراض محددة، وليس ذوباناً في لغتهم وثقافتهم وفكرهم، وليس تغليباً لرطانتهم على عربيتنا (لغة قرآننا) في التعليم والإعلام وغيرها من المجالات.
|
يذكرني دور هذه المؤسسة بدور الصحابي الجليل (زيد بن ثابت) -رضي الله عنه- الذي حاول أن يشارك في معركة بدر الكبرى، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رده لصغر سنه؛ لأنه كان في الثالثة عشرة من عمره، ومع ذلك فقد طلب من أمه (النوار بنت مالك) أن تذهب به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعرض عليه أن يستفيد من قدرته على الحفظ ومعرفته بالقراءة والكتابة فقد كان ذكياً - رضي الله عنه- وذهبت به أمه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلة: يا نبي الله هذا ابننا زيد بن ثابت يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوق ذلك حاذق ذكي يجيد القراءة والكتابة، وهو يريد أن يتقرب بذلك إليك وأن يلزمك فاسمع منه إذا شئت، فلما استمع إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عرف صدق ما وصفته به أمه، وقال له: يا زيد تعلم لي كتابة اليهود العبرية فإني لا آمنهم على ما أقول) قال زيد: فتعلمتها في سبع عشرة ليلة فكنت أتكلمها كأهلها.
|
هذا أنموذج واضح لمسوغات تعلم لغة الآخر، وفي قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- (تعلمْ لي) فالتعليم ليس للتباهي بمعرفة لغة أخرى، وإنما هو تعلم لمصلحة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أي لمصلحة دولة الإسلام.
|
من حق هذه المؤسسة علينا أن نشكرها ونشيد بدورها المحدد، ومن حق لغة القرآن علينا ألا نزاحمها بلغات دونها قيمة وأصالةً وسمواً ومكانة.
|
|
تعب المشتاق من أشواقه |
فمتى يمحو التلاقي تعبهْ |
|