عندما أعود إلى مكة المكرمة، بين الحين و الآخر، لأداء العمرة أو الحج، أو للمشاركة في مناسبة عائلية، فرح أو وفاة، وأصلي في المسجد المكي الحرام، أشعر برهبة وقدسية المكان. لا أدري لماذا تذكرت في آخر زيارة لي إلى مكة المكرمة، حديث دار بيني وبين أحد الأصدقاء، حول ما يشعر به من يأتي إلى هذه البقاع الطاهرة من رهبة وقدسية المكان، أنني عندما كنت أسكن بمكة المكرمة، وأحسب، كما دار الحديث مع صديقي أن ذلك قد ينسحب على غيري، لا نشعر، بالضرورة، برهبة وقدسية المكان بالقدر نفسه الذي يشعر به من يزورها من خارجه، ربما بسبب تعوّد النفس على ذلك، فتخمد جذوة ذلك الشعور. ولعلّ ذلك يؤدي إلى تخفيف تبعات ذلك على النفس، وهو ما ينعكس، بالضرورة أيضاً، على سلوكيات الناس في الغالب.
وأود هنا أن أكون حذراً بقدر الإمكان، فلا أميل إلى التعميم، بل أحسب أن ذلك قد ينطبق على بعض من الناس، وليس كلهم، بالضرورة. وعندما يشعر الناس برهبة وقدسية المكان، فإن ذلك ينعكس على سلوكهم، فيكونون أكثر حذراً، وخوفاً، ويميلون إلى الاستقامة. ولا أدري، كما قلت، لماذا تذكرت ذلك الحديث، وهذا السياق، وأنا أقرأ خبراً نشرته جريدة عكاظ في صفحتها الأولى يوم الثلاثاء 17 رجب الجاري، جاء فيه أن ديوان المراقبة العامة اكتشف خلال العام الماضي مخالفات مالية في بعض الدوائر الحكومية بالمدينة المنورة وصلت قيمتها إلى نحو 2.7 مليار ريال سعودي. قرأت الخبر وقلت يا الله كيف تحصل هذه المحالفات المالية الضخمة في عام واحد وفي المدينة المنورة؟ وأحسب أن ما ذكرته عن رهبة وقدسية مكة المكرمة ينطبق تماماً على مدينة المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا كان ذلك يحدث في تلك الأرض الطاهرة، فما بالك بما يحدث في المدن الأخرى. بل إن ذلك هو ما يحدث فعلاً، إذ سبق وأن كشف ديوان المراقبة العامة أمام مجلس الشورى عن تجاوزات مالية في الأجهزة الحكومية على مستوى البلاد.
وأحسب أننا أمام مشكلة أخلاقية قبل أن تكون مشكلة مالية أو إدارية. وما أعتقد أنه ضروري أمام هذه الحقائق التي يقدمها ديوان المراقبة العامة، هو أن علينا، كمجتمع، قبل مسؤولية الحكومة أو الدولة، أن نراجع أنفسنا، ونسأل بكل شفافية وصدق، لماذا وصل بنا الحال إلى هذا الانحدار في السلوك والأخلاق؟ إن ما يحصل ليس خللاً اقتصادياً فحسب، بل هو خلل أخلاقي يحتاج إلى مواجهة. ما نريد أن نقرأ عنه في الصحف الآن هو ماذا بعد تقارير ديوان المراقبة العامة؟ صحيح أن من المهم جداً كشف هذه التجاوزات المالية، لكن الأهم هو ما بعد ذلك.