Al Jazirah NewsPaper Monday  28/06/2010 G Issue 13787
الأثنين 16 رجب 1431   العدد  13787
 
تتبُّع رخص الفقهاء
فهد بن سليمان بن عبدالله التويجري

 

من عظمة أمتنا أنها مرت بمراحل صعبة، استطاعت أن تتجاوزها في الماضي، قدما لنشر رسالتها على أصل متين وقاعدة ثابتة.

وهذا الأصل وتلك القاعدة هي تدوين السنة التي هي أصل ديننا بعد كتاب الله، فنحن أمة الإسناد، وأمة الدليل ومن ترك الدليل ضلَّ السبيل، ولذا تسابق سلفنا الصالح لحفظ الأصول من أجل الوصول ونعم ما فعلوا، ولله درهم، كما أعرضوا عن أقوال الرجال وآرائهم المرجوحة والشاذة، وقدموا نصوص الوحيين على أقوال الرعيل الأول فكيف يغيرهم، حتى قال إمام المفسرين ابن عباس: (أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال: أبو بكر وعمر).

والإمام أحمد يقول: (عجبت إلى أناس عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان)، وما ذلك إلا لأن العلماء -أعني علماء الشريعة- مهما بلغوا علماً وفقهاً فهم بشر محل الخطأ والنسيان، فالزلل حاصل، والخطأ وارد، وأبونا آدم نسي ولم يجد له ربي عزماً، نسي آدم فنسيت ذريته، فمالك وأحمد والشافعي وأبو حنيفة ومن بعدهم وقبلهم لهم أقوال واختيارات مرجوحة لأسباب كثيرة.

ومن هنا جاء الكتاب العزيز بالرد عند الاختلاف والتنازع إليه في قوله تعالى: (... فإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59)، فيكون الرد إلى الله ورسوله ولا ثالث لهما.

وإنك لتأسف اليوم أشد الأسف، مما يطرحه كثير من طلبة العلم أو الكتاب في الصحف من تتبع النوادر والشواذ، أو الأقوال الضعيفة أو المرجوحة، وهو مسلك خطير ومنحنى وخيم، قال سليمان التيمي: (لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله)، وعقب هذا القول الحافظ ابن عبدالبر بقوله: (هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً)، أي أنه لا يجوز تتبع الرخص، وأن ذلك مظنة لاجتماع الشر في الإنسان، وقال الأوزاعي (من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام)، ويقصد بنوادر العلماء أي بشذوذاتهم، ويقول أيضاً: (تجنب من قول أهل العراق خمساً)، يعني أن العلماء في العراق كانت لهم مسائل قد شذت أقوالهم، كما أن علماء الحجاز في ذلك الزمان لهم مسائل قد شذت أقوالهم فيها، وهكذا.

وقال الإمام أحمد - رحمه الله - (لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ - يعني المسكر - وأهل المدينة بالسماع - يعني سماع المعازف - وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً)، ويقول الإمام إسماعيل القاضي المالكي (دخلت على الخليفة المعتضد في أيام خلافته فرفع إليَّ كتاباً لأنظر فيه، وقد جمع فيه المؤلف الرخص والأقوال الشاذة المرخصة من أقوال أهل العلم وأعطي لهذا الخليفة - يقول: (وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق)، هذا رجل أراد أن يتقرب إلى الخليفة بجمع هذه الرخص له، ثم قال: (لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، إن هذا الذي جمع لك هذه الأشياء هي بمجموعها لا يقول بها عالم، وإنما بعض العلماء شذ في مسألة، والآخر شذ في مسألة، والثالث شذ في مسألة، والرابع شذ في مسألة، ولا أحد منهم أبداً يرخص في هذه الأشياء مجتمعة، وقد جمعت إليك في كتاب، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه)، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.

ويقول الحافظ بن حزم (وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهوائهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد حكى ابن حزم - رحمه الله - الإجماع على أن تتبع رخص المذاهب بغير مستند شرعي فسق لا يحل).

واتفق أهل العلم على تحريم تتبع الرخص والتلفيق بين المذاهب والأقوال بلا دليل شرعي راجح، وإفتاء الناس بها.

لقد تبرأ علماؤنا الإجلاء قديماً وحديثاً من أن يتابعوا على الخطأ والزلل، فمالك وأحمد والشافعي وغيرهم كانوا ينهون عن متابعتهم على الخطأ، والتعصب لأقوالهم، وأقوالهم في هذا كثيرة.

ولقد رأينا في وقتنا هذا من ينقب في بطون الكتب لاستخراج النوادر والشواذ من أقوال العلماء ليفجرها في وسائل الإعلام فتنة للناس أو طلباً للظهور من غير هدى ولا كتاب منير (ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، (وإذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ.) (البقرة:206)، أو قد يظن أنه يحسن صنعاً، والله يقول: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أعمالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف:103- 104).

وأخيراً يقال للمستفتين: مالكم تقلدون هذا الفقيه في تلك الرخصة ولا تقلدونه فيما لم يرخص فيه وتبحثون عن فقيه آخر يفتيكم بالرخصة؟!! وهذا دليل أنكم تتخذون التقليد ستاراً لما تهواه أنفسكم!!، ثم إن السلف حذروا من زلات العلماء وتقليدهم فيها، قال عمر: (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون).

مساعد المدير العام لفرع وزارة الشؤون الإسلامية بمنطقة القصيم


 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد