تُرى هل نستطيع أن نعتبر كرة القدم مجرد مرآة تعكس المشاعر الجمعية لبلد ما؟ أم ينبغي لنا أن ننظر إليها باعتبارها عدسة مكبرة، إن لم تكن في بعض الأحيان مرآة مشوهة، تكشف على أرض الملعب عن إحباطات أو مخاوف أو طموحات أو آمال أمة ما؟.. إنه لأمر شديد الإغراء أن نعزو إلى كرة القدم «رسم خريطة» الحالة العاطفية للعالم. فأداء آسيا على سبيل المثال أقل براعة في كأس العالم لكرة القدم مقارنة بأدائها الاقتصادي، إلا أنها تتقدم بكل تأكيد، فتعوض عن النقص الحالي في المواهب الفردية من خلال توظيف فِرَقِها لأعظم قدر ممكن من الانضباط الجماعي.
على النقيض من ذلك، ومن حيث الإبداع، فإن المواهب الأمريكية اللاتينية تشع إلى ما هو أبعد من البرازيل ومكانتها المؤكدة كقوة ناشئة في العالم لتشمل دولاً مثل الأرجنتين وأوروجواي، بل وحتى شيلي. أما إفريقيا فعلى الرغم من بعض النجاحات الوطنية الفردية النادرة، فإنها ما تزال ضعيفة الأداء رغم أن بطولة كأس العالم تقام في ساحتها الخلفية.
وباعتباري مواطناً فرنسياً شاهد بمزيج من الحزن والخزي سلوك الفريق الوطني الفرنسي، على أرض الملعب وخارج أرض الملعب (من حسن الحظ أن هذا التعذيب قد انتهى) فإن الصورة في المرآة منطقية إلى حد كبير. ولكن هل نستطيع أن نقول إن البلد المحبط الكاسد لا ينتج إلا فريقاً محبطاً كاسداً؟. هناك العديد من البلدان التي تمر بظروف اجتماعية واقتصادية لا تقل سوءاً، أو لعلها أسوأ، من الظروف التي تمر بها فرنسا، ورغم ذلك فإن منتخباتها الوطنية تقدم أداءً مبهراً على أرض الملعب. ولنتأمل هنا فريق البرتغال أو هولندا، ناهيك عن فريق إسبانيا. وهناك الأرجنتين، حيث يستطيع المرء أن يتحدث عن العلاقة العكسية بين الثقة التي تبديها البلاد وبين الثقة التي يبديها فريقها في كأس العالم لكرة القدم.
إن الأداء المأساوي الذي قدمه المنتخب الفرنسي في جنوب إفريقيا قد يعزز من الإحباط الذي تعيشه البلاد. والواقع أن المواطنين الفرنسيين كانوا في حاجة ماسة إلى إجازة، ولو لمدة شهر واحد، من الواقع الاقتصادي الاجتماعي الذي يعيشه بلدهم.
ولكن لا ينبغي لنا أن نخلط بين العواقب والأسباب. إن أداء الفريق الفرنسي قد يعكس المزاج السائد في البلاد، ولكن فشل النجوم الدوليين الفرنسيين يعكس في المقام الأول الغياب الكامل للزعامة المسؤولة. ولقد اشتمل الأمر على الكثير من الأموال، وأقل القليل من احترام شرف ارتداء قميص المنتخب، طبقاً لتعبير وزيرة الصحة والرياضة الفرنسية روزلين باتشلو فإن تفسخ المنتخب الفرنسي لم يكن حدثاً بل كان عبارة عن عملية ذات تسلسل، وذات وقائع مأساوية منتظرة.
وفي واقع الأمر، فإن ما ينطبق على فرنسا من الممكن أن يقال أيضاً عن العديد من الفرق الأخرى، مثل المنتخب الإيطالي. ولكن لن نجد التباين بين الماضي القريب المجيد والحاضر البائس بهذا القدر من الوضوح كما هي الحال في فرنسا. فعلى أرض موليير لابد وأن يكون الفشل، شأنه في ذلك شأن النجاح، مسرحياً.
في عام 1998 كان بوسع فرنسا أن تحتفل بالنصر المتعدد الألوان والأعراق لمنتخبها الكروي. وفي عام 2010 كان الحزن والأسى من نصيب فرنسا، حتى أن بعض الناس بدءوا يرون، من خلال فشل المنتخب الوطني، القصور الذي يعيب النموذج الفرنسي للتكامل.
كنا «نحن» الفرنسيين نشعر بالفخر الشديد في عام 1998 ونحن نشاهد الصورة الرمزية العملاقة للاعب زين الدين زيدان (قائد المنتخب الفرنسي، وهو من أصل جزائري) وهي تعرض على قوس النصر في الشانزيليزيه. ولم نكن على قمة العالم فحسب، بل كنا مأخوذين بمشاعر الفخر، التي ربما كانت أشبه بما شعر به العديد من الأمريكيين بعد النصر الذي حققه الرئيس باراك أوباما في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وآنذاك بدت الحرية والمساواة والإخاء كقيم شديدة الواقعية لجمهوريتنا الفرنسية.
أما في عام 2010 فإن «صعود وسقوط المنتخب الفرنسي» من الممكن أن يُفَسَر على أنه نسخة متسارعة من دراسة غيبون لانحدار الإمبراطورية الرومانية. فقد اختار الإمبراطور الضعيف (رئيس الاتحاد الفرنسي لكرة القدم) قائداً عسكرياً يفتقر إلى الكفاءة (المدرب ريموند دومينيك)، وهو القائد الذي فشل في إلهام الجنود المرتزقة (اللاعبين) أو غرس حس التضحية الجماعية والواجب في أنفسهم.
ولكن هناك دراسة أعظم فائدة من تحليل جيبون للإمبراطورية الرومانية، وهي الدراسة التي قد تساعدنا في فهم ما حدث للفريق الفرنسي: دراسة مارك بلوخ البارعة لانهيار فرنسا في عام 1940 تحت عنوان «هزيمة غريبة». فمثله كمثل الجيش الفرنسي في ربيع عام 1940، كان الفريق الفرنسي يستعين بإستراتيجية وتكنيك عتيقين. وإذا كان بوسعنا أن نضع كرة القدم في محل الحرب، فإن المقارنة التي تتبادر إلى الذهن سوف تتمثل في المؤسسة العسكرية الفرنسية التي أصابتها الشيخوخة، خلف خط ماجينو في عام 1940، والتي كانت عاجزة عن مواجهة القيادة البارعة للجنرال هاينز جودريان وهجماته الخاطفة بالدبابات.
ولكن هناك سؤال لا يزال مطروحا. هل نستطيع أن نعتبر فرنسا مجرد نسخة متطرفة من مأزق «القوى العظمى» التقليدي في أوروبا؟.. ففي أوروبا، حين نتحدث عن كرة القدم على الأقل، سنجد أن «كل صغير جميل»، وإن كنت مشجعاً فمن الأفضل كثيراً أن تكون هولندياً، أو برتغالياً، أو سلوفاكياً، لا أن تكون إيطالياً، أو إنجليزياً، أو فرنسياً بالطبع. وحتى على الرغم من تأهل منتخبي إسبانيا وألمانيا للدور التالي، فقد بدأ كل من المنتخبين في بث الرعب في نفوس مشجعيه بنتائج مختلطة.
في عام 2006 كانت المباراة النهائية في كأس العالم لكرة القدم أوروبية، حيث تمكنت إيطاليا من إلحاق الهزيمة بفرنسا. أما المباراة النهائية في هذا العام فمن المرجح أن تكون شأناً أمريكياً لاتينياً بحتا.
***
دومينيك مويزي أستاذ زائر بجامعة هارفارد ومؤلف كتاب «الجغرافيا السياسية للعاطفة».
* حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010م.
www.project-syndicate.org
خاص (الجزيرة)