الرياض - خاص بـ»الجزيرة»
يظهر بين الفينة والأخرى كتاب، أو مجموعة من الكتب التي تتحدث عن التأريخ الإسلامي، وعن الشخصيات الإسلامية، ولكن الملاحظ أن مؤلفي هذه الكتب يتفاوتون في الحديث عن هذا التاريخ، فالبعض منهم يبرز بعض الأحداث ويغفل أخرى، أو يشوّهها، ويمجد شخصية، ويشوّه أخرى من خلال النقل إما عن كتب سابقة ليست موثوقة، أو النقل عن أناس غير مسلمين.. السؤال الذي يطرح نفسه من يكتب التاريخ؟ ومن يشوّه ماضي الأمة؟ ومن المسؤول عن الاختلافات التاريخية للشخصيات الإسلامية، وللأحداث والقصص والوقائع؟ «الجزيرة» استطلعت آراء عدد من المؤرخين يمثلون نخبة من الأساتذة في أقسام التاريخ في جامعاتنا.
من يكتب التاريخ؟!
يقول الأستاذ الدكتور عمر بن صالح العُمري - رئيس قسم التاريخ والحضارة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: في الماضي كانت كتابة التاريخ مقتصرة على من يعرفون بالمؤرخين التقليديين، وكانت دوافعهم لكتابة التاريخ هي التي تسيّرهم وتوجههم في كتاباتهم فكل يكتب بناء على ميوله السياسية والدينية والاجتماعية، ولذلك جاءت تلك الكتابات مصبوغة بأثر هذه الميول، وفي عصرنا الحاضر جاءت بعض الكتابات انعكاساً لتلك الكتابات السابقة، حيث يشوبها التشويه بالرغم من اصطباغها بالصبغة الأكاديمية، بل وصل الحال في بعض الكتابات إلى الطعن في بعض رموز وشخصيات التاريخ الإسلامي والسبب في ذلك إضافة إلى ما ذكر من عوامل وتأثيرات سياسية ودينية واجتماعية ما يقوم به البعض من الاعتماد على تلك الكتب والمؤلفات القديمة دون التمحيص ودون إخضاع محتوياتها لمنهج النقد التاريخي الباطني والظاهري السلبي والإيجابي، ودون اعتماد الأسس والمعايير الإسلامية في نقد هذه النصوص التاريخية.
فمن المعروف أن المسلمين يمتلكون في تراثهم وفي مبادئهم أفضل الوسائل للنقد العادل البناء ويكفي لذلك ميزان الجرح والتعديل في وزن الرجال، لكن إهمال هذه الأسس والسير دون تدبر وتدقيق إما بقصد أو بغير قصد هو من شوّه صورة التاريخ الإسلامي، والحل كما ذكرت ضرورة اعتماد استخدام المناهج النقدية، ثم مراجعة ما يكتب من قبل لجان وهيئات علمية متخصصة لا تحركها ميول ولا معتقدات خاطئة كي نضمن النقاء في الكتابة، مع بيان الأخطاء والرد عليها وتصحيحها.
الدراسة والفهم
ويؤكد الأستاذ الدكتور إبراهيم بن محمد المزيني: إن التاريخ الإسلامي هو تاريخ دين وعقيدة وحضارة متكاملة قبل أن يكون تاريخ دول ومعارك ونظم سياسية، ولأجل هذه الصفة في تاريخنا الإسلامي، فإنه لا بد من دراسته وفهمه وكتابته وفق منهج علمي صحيح منبثق عن التصور الصحيح عن غاية الإنسان في هذه الحياة الكريمة بما يحقق معنى استخلافه في الأرض، ومتى كتب تاريخنا الإسلامي في غياب المنهج الصحيح لكتابة البحث التاريخي فنتيجته نتاج تاريخي مختل الموضوعية وفاقد للمصداقية.
وعلى الرغم من المحاولات المتكررة لإعادة كتابة التاريخ وما صاحب ذلك من مشروعات وأفكار تطرح هنا وهناك إلا أن تاريخنا لا يزال يعاني من انتكاس تلك المحاولات رغم الثراء الفكري والتقدم التقني ونماء أدوات البحث وتعددها.
ومن أبرز أسباب تلك الانتكاسة وذلك التأخر هو غياب الموضوعية واتباع الهوى فامتلأت مصادرنا التاريخية بصفحات قاتمة من الصراعات والمواجهات التي صوّرت للأجيال بأنها تمثل تاريخ الأمة، وكانت مخرجاتها تراكم الزيف والتمادي في تظليل الحقائق.
الواقعة التاريخية
ويضيف د. المزيني: إن هذه المقدمة تذكرني بسؤال يتكرر حول من يكتب التاريخ؟ أهم المؤرخون أم أولئك الذين شاركوا في الأحداث ودوّنوا مشاهداتهم وانطباعاتهم في مذكراتهم الشخصية، وقد اعتمد كثير منها على أنها مسلمات تاريخية بحكم معاصرتها.
وأجيب هنا موجزًا.. أن المؤرخ هو من ينبغي أن يتعاطى كتابة التاريخ بتحقيق الواقعة التاريخية وفقاً لمنهجية واضحة متفق عليها، فهو أشبه ما يكون بقاضٍ ينتظر شهادة معاصرين لأحداث معينة فيعرضها بواقعية وموضوعية دون تحيّز أو تعصب.
أما أولئك الذين شاهدوا أو شاركوا في أحداث معينة، فهم يكتبون انطباعاتهم وفق ما شاهدوه لتكون مادة للمؤرخ يستقي منها طرفًا من شهادة العصر أو الحدث، أو قراءة لشخصية ما، إلا أن دور المؤرخ هنا يبرز في فحص تلك الروايات وإخضاعها لمعايير علمية ومنهجية دقيقة قبل أن ينهي فيها حكمه ويسجلها لمن بعده.
والأخطر من هذا وذاك أنه يجب أن نستشعر أن تاريخنا الإسلامي بما في ذلك تاريخ الأحداث أو سير الإعلام إنما هو حركة الأمة وتاريخها، وأي تشويه لهذا التاريخ إنما يقصد منه الرمز وهو الأمة وقيمها ومبادئها، فلزم الحذر، واستشعار الأهمية. ثم إن تحديد الملامح الصحيحة للمنهج الإسلامي القويم لكتابة التاريخ ومعرفة تلك الملامح والعمل وفقها سيقودنا بالتالي بحول الله إلى معرفة المسار الصحيح نحو إعادة قراءة التاريخ وكتابته على أسس سليمة ومناهج شاملة منبثقة من الرؤية الإلهية المحيطة لحركة التاريخ الإنساني عبر الزمن ووفق ما أراده عزّ وجلّ لهذا الإنسان من خلافة الأرض والله أعلم وهو الموفق والمسدد.
المؤرخ ابن بيئته
ويشير الأستاذ الدكتور عبدالرحمن بن علي السنيدي: إن هناك عوامل كثيرة تؤثر سلباً على كتابة التاريخ وإخراجه بصورة مغايرة للحقيقة فالمؤرخ ابن بيئته يتعرض لضغوطها وثقافتها، وقد أشار ابن خلدون إلى مجموعة من العوامل التي تؤثر على بعض المؤرخين وتدفعهم إلى التعويل على الأساطير وذكر منها التعصب للآراء والمذاهب والتقرب لأصحاب التجلة.
لقد لحق بعض الشخصيات ظلم وإساءة لتاريخها إما بسبب المذاهب أو الرغبة في الإثارة وجذب المستمع والمشاهد، وعلى مستوى العالم جرى طمس حقائق وإثارة قضايا وما سلم تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم من العدوان والتشويه كما جرى من (بندكت السادس عشر).
إن من صيانة الأمن الثقافي والفكري احترام الشخصيات الإسلامية التاريخية وسن الأنظمة والقوانين التي تؤدي إلى حماية تاريخ هؤلاء من الازدراء والتشويه.
الدراسة العلمية
أما الدكتور بسام بن عبد العزيز الخراشي فقال: إن التاريخ هو السجل المدوّن للواقع والأحداث حسب تسلسلها الزمني من بدء الخليقة إلى يومنا هذا، فالتاريخ علم كغيره من العلوم وتدوينه وكتابته ينبغي أن تكون وفق المنهج العلمي القائم على جمع المادة العلمية من منابعها الأصلية، وتحليلها ودراستها دراسة علمية مؤصلة تعتمد على الاستنتاج والمقارنة والتحليل والنقد للوصول إلى الحقائق التاريخية، ويأتي الخلل والتشويه في الغالب من عدم تطبيق أو معرفة هذا المنهج الأمر الذي يجعل الكثير يقف حائلاً تجاه بعض القضايا التاريخية التي تواترت عليها الروايات المتناقضة بين مصدق ومكذب، وسبق أن تناول ذلك بعض المؤرخين من أمثال ابن العربي (ت 543هـ) في كتابه تاريخ العواصم من القواصم، وابن خلدون (ت 808هـ) في مقدمته الذي أرجع ذلك إلى عدة أمور، منها:
شخصية المؤلف وميوله وأهواؤه، ومدى سيطرة هذه الميول على أحكامه، وتقرب أصحاب هذه الكتب إلى ذوي الجاه والمناصب بالمدح والثناء فينسبون إليهم من الأعمال والمآثر ما ليس لهم، والجهل بالقوانين التي تخضع لها ظواهر الاجتماع الإنساني كما ورد في عدد جيش بني إسرائيل الذين أحصاهم موسى عليه السلام في التيه..
ولاحظ ابن خلدون -رحمه الله- أنه لا يمكن أن يتوفر هذا العدد لبني إسرائيل في ذلك الزمن.
المدة الزمنية
ويضيف د. الخراشي إلى ما أشار إليه العلامة ابن خلدون سبباً آخر وهو بعد المدة الزمنية بين وقوع بعض الأحداث وتدوينها مما يجعل هذه الأحداث عرضة للتشويه والافتراء، فالتاريخ الأموي مثلاً كتب في العصر العباسي؛ ولهذا اختلط الأمر على الكتاب والمؤلفين في الوصول إلى الحقائق التاريخية التي تعكس الوجه المشرق للحضارة الإسلامية في العصر الأموي الذي هو ملموس وواضح من خلال امتداد رقعة العالم الإسلامي والفتوحات التي تحققت في المشرق والمغرب، التي استمر أثرها إلى يومنا هذا أدلة شاهدة على محاسن العصر الأموي، وأنه امتداد للعصر النبوي والراشدي في نشر الدعوة والدفاع عنها في كل الميادين، وليس كما تصوره بعض المصادر خاصة مؤلفات أصحاب الاتجاه الفرقي، ولهذا فإن التاريخ بحاجة ماسة إلى تنقية مروياته، وعرضها بصورة صحيحة لمعرفة مواطن التشويه وللرد على أصحابها، ولعل هذا يتحقق من خلال إصدار دراسات علمية تسهم في توضيح المنهج العلمي لكتابة التاريخ ورصد أحداثه، وتبني ورعاية كل من يكتب التاريخ بإنصاف وعدل من الباحثين في الشرق والغرب، والاستفادة من التقنيات الحديثة في جمع وتحرير الأبحاث والدراسات التاريخية، والرد من خلالها على المتهجمين والمشككين عن طريق إنشاء مواقع متخصصة في الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، ويكون ذلك على مستوى الجامعات وتحت إشراف أساتذة متخصصين في هذا الجانب، مع أهمية أن يكون هناك قناة فضائية متخصصة لمناقشة القضايا التاريخية يدعى لها من المتخصصين في جميع مسارات وفروع التاريخ.