حوار - أروى الباشا :
تتسارع نبضات اللون الطرية في حركة فرشاته وتمضي لترسم لوحات تبدو بغموض الموناليزا وتحيّر الناظر إليها، فلوحاته لا ُترى من جانب واحد فقط.. فأحدهم يرىُ شخوصه ضاحكة والآخر يراها حزينة باكية حسب الحالات النفسية والمزاجية للناظر وحسب رؤيته وبيئته ومرجعياته الثّقافية، يفسَّر عمله بمناخاتٍ متعددة وتأويلاتٍ شديدة فهو يجمع بين الآدميّة والبهيميّة وبين القسوة والشاعرية في اللّوحة الواحدة «عملي غير محايد على الإطلاق ويعطي للناظر جرعة من الأدرنالين بكل ما يخلقه ذلك من اندفاع وهيجان في النفس البشرية».
اختار الفنان التشكيلي السوري سبهان آدم عنوان (آدم 96 - 09) لمعرِضه الذي يقام حالياً في الآرت هاوس بدمشق، كنظرة استشرافية لـ40 لوحة فنيّة رسمها لفترة امتدت على أكثر من 13 عاماً بألوان الإكريليك ومواد أخرى، الفن لديه إحساس متقد يتجمّع في كيانه ثم ينسكب عبر يده وألوانه إلى سطح اللّوحة، يمتصّ كلّ شيء ويفرز ما يريد، يرسم بذاتيّة شديدة ويرفض أن يتأثر بمدرسة محدّدة على الرغم من الانطباع الغالب على لوحاته (التعبيري)، «عندما بدأت الرسم لم أكن أعرف المدرسة التي ينتمي إليها فنِّي، أحاول الرسم بطابع ذاتيّ خاص بسبهان آدم، واليوم هناك تيّار عريض بأسماء مختلفة من التشكيليين الشباب وغير الشباب الذين تأثروا بفنّي».
لم يدخل آدم كلية الفنون الجميلة ولا يحمل حتّى شهادة (البكالوريا)، فعمله نتاج مدرسة ذاتية متميّزة في الفن التشكيلي، «لم يكن لدي مرجعيات في الرسم كنت اقرأ بكثافة شديدة في مختلف مناحي الثقافة والمعرفة وحاولت كتابة الشعر، ولم أكن يوماً سجيناً لتجربة أو اتّجاه تشكيليّ محدّد»، بدأ بالرسم في عمر الـ17 عاماً وتعرض في بداياته لإحباط وفشل وأزمات نفسية كان يصاب على إثرها بنوبات تشنج كولون عصبي شديدة جعلته زائر دائم لمشفى المواساة بدمشق، «ولدت في عائلة بسيطة مكونة من عشر أشخاص، في البداية كان النّاس يسخرون من فنّي من أصغرهم وحتى أكبرهم، واليوم أصبحت قدوة ورمز لجيل كامل وأصبح الشباب يدافعون عن أحلامهم باسمي».
تبدو الشخوص في لوحاته بين الآدمية والبهيمية ككائنات ممسوخة محيرة مذعورة لكأنّها على أعتاب الليل أو في نار الجحيم.. فشخصياته تتقمّص أدواراً تتباين بين الرجل المسخ، والصعلوك الذي يرتدي معطف الملوك، والرجل المهرج في ملابس السّيرك.. ويقال أنًه يعبر عن جمالية القبح حيث يتعمد رسم وجوه دميمة وأجساد من دون أطراف آدميّة غارقة في السَّواد، تعيش أقصى حالات العزلة والفزع «لا أعتمد جماليّة القبح في لوحاتي ففي كثير من الأحيان أرسم شخوص محبطة مستكينة وربّما جميلة ولكن يفهمها الناظر على أنها عفاريت أو شخوص شديدة الشراسة، فمن الصًّعب أن أفرض صيغة نهائيّة للّوحة».
إنّه يعشق الخوف ولحظات الظلم واللاإنسانية التي عاشها في مسيرة حياته، لأنّ ذلك وحده علّمه أن يكون رساماً، وأن يكون إنساناً وبهذه الإنسانية في أعماله وفي داخله يرفع قلبه على يديه، يمنحه لمن لا قلب له، «عندما يطغى الجانب القاسي على لوحاتي فهذا لا يعني أني أتعمد القسوة، أنا لست جزاراً.. أنا طفل أمام قماش أبيض، هناك واقع يجبرك أن تعبر عنه بكل ما يحمل من نفاق وكذب وخداع، ولو أردت أن أجمل الواقع لكذبت على نفسي وعلى الآخرين»، ويتابع «حياتي قائمة على الألوان والقماش فأنا أدافع عن حلم الطفولة ولازلت طفلاً وسأبقى طفلاً حتى اللحظة الأخيرة من حياتي».
الفنان السوري الذي احتجز مساحةً واسعةً من عقول النقاد الغرب واحتلت لوحاته أغلفة أشهر المجلات العالمية لم يرسم في غير الحسكة موطنه الأصلي ومسقط رأسه، واعتكافه بمرسمه في الحسكة هو حرص على دوام تلك العلاقة الاستثنائيّة مع والدته «فني يستمدّ روحيته من والدتي فأنا استمد قوتي منها واعتبر الأنثى مصدر إشعاع كبير لي»، وعلى رغم أن الأنثى تشكل مصدر أبداع وإلهام له إلا أنها كانت غائبة في معرضه «التعبير عن المرأة قليل جداً في لوحاتي لماذا.. لا أعرف السبب ففي كثير من الأحيان أفصل بين الرّسم والحالات التي أعيشها فقد أرسم كائنات عفريتية وأشياء قبيحة مزعجة مع أني أعيش حالات رومانسية جميلة».
رأى الشاعر السوري أدونيس أن فنه يعتبر انفجاراً في أحشاء تاريخ فنِّ العالم العربي الإسلامي وحول إذا ما أثَّر شعر أدونيس الذي يعشقه بدوره على لوحاته يقول «لم أتأثَّر بشعر أدونيس على الإطلاق كما هو شائع، وأعتقد أن الرأي الذي أعطاه أدونيس بلوحاتي هو رأي معرفيّ أعتز به كما أعتز بآراء الكثيرين مثل أنطوان مقدسي، وأعتبر أن آراءهم تضفي صبغة شرعيّة على عملي وتدفعه للأمام».
لم يحدد زمناً معيّناً لانتهاء معرضه بل ترك ذلك مفتوحاً للحملة الإعلانيّة الضّخمة التي تُقام للمرة الأولى لفنان تشكيليّ سوريّ في أهم مراكز العاصمة دمشق إضافة إلى طريق بيروت - دمشق، وبعد حادث السير المؤسف الذي تعرّض له الصيفَ الفائت على طريق دير الزور- الحسكة إثر عاصفة غباريّة، أسفرت عن كسور ورضوض في مختلف أنحاء جسده، يقول «أصبح هناك تغير فظيع لرؤيتي للعالم من جديد، لا أعرف كيف سأعبّر عن الحادث بشكل بصريّ.. لا أعرف كيف سأحول هذا الشيء إلى رسم، ولكن أعتقد أن الحادث زادني قوة وشراسة وحساسيّة، ومنحني معرفة ماذا تعني كلمة إنسان لأنّ الإنسان يجب أن يليق بهذه الكلمة بكل ما تحمله من معنى».
يُذكَر أن سبهان آدم مولود في الحسكة عام 1972، وتُعرَض أعماله في جميع أنحاء العالم، بعد أن أقام نحو 60 معرضاً فردياً، كما تمَّ تكريس 22 معرضاً له في فرنسا خلال السنوات الأخيرة، وعُرِضت أعماله على نطاق واسع في أوروبا وأميركا والشرق الأدنى والأوسط، والعالم العربيّ.