إلى صدقة: لم يتوقف العيد!
ما كان صدقةُ يعلم بأنه سيستحيل وسماً للتاريخ عندما انحدر ليلة العيد قاصداً (أبي سُرَيحة)، وهو المكان الذي اختاره الشيخ مبكراً لأن يكون مِلَمّ العيد تلك السنة. (أبو سُرَيحة) أرضٌ منبسطة معَلَّمةٌ في وسطها بشجرة سَرْحٍ وحيدة تُرى على بُعد. تقع جنوب مكة على يسار الطريق الساحلي النازل، بعد (قهوة الجبل) ببضعة كيلومترات. صادقَ من كان في المجلس على رأي الشيخ، خصوصاً وأن المكان المُتفق عليه يتوسّط تقريباً المنازلَ المتفرقة لأفراد العشيرة، ثم بعثوا المراسيل لإخبار القاصي والداني.
صدقة المنحدر فقدَ والديه وإخوته زمنَ المِيتة. لم يرِثْ شيئاً، فأصبح كما يقال عنه: لا وراءه ولا قدّامه. ولمّا لم يلقَ قبولاً لائقاً عند أخواله هام وحيداً في الصحراء. لا يبتعد -رغم ذلك- كثيراً عن مواطئ العشيرة. يتقصّى أخبارها ولا يفوّت مناسباتِها. ليس عليه سوى ثوبِه الأحمر المَلّة المصبوغ بالبَشَام، وحبلٍ يحزم بطنه. أدركه رمضان في البرقاء القريبة من (أبي سريحة). ظل مختبئاً في ثنايا صخورها، وكلما مالت الشمس نحو البحر قام يستشرف المكان، فإذا ما شاهد على البُعد أزوالَ جَمّالةٍ نزل يسألهم الأخبار وبعض الحِنطة أو التمر. وصله الخبر كغيره وكانت فرصةً سانحة لأن يلتقي بعشيرته. وعلى أنه ضوى تلك الليلة بمجرد أن انغمست الشمسُ في البحر، إلا أنه كان آخر الوافدين إلى المِلَمّ المخصص للعيد، وهذا ما بعث في نفسه قدراً لا بأس به من الطمأنينة.
استقبلته أصواتُ الرجال والنساء الواصلين للتوّ، وهم يدقّون أوتاد بيوتِ الشَّعر التي ينظمونها صفوفاً متراصّة ومتداخلة. الطُّنبُ في الطنب. لم يكن الصيف قد انقشع، ولذا وجّهوا بيوتهم نحو الشمال. قبل ذلك حَوَوا ما معهم من الغنم والجمال والحمير في زرائب مرتجلة على أطراف البيوت. ولقلّتها وضعوها سوية، إذ إن أيّاً منهم قادرٌ على فرزِ حلالِه وقت الرحيل. وما إن ينتهي أحدهم من نصب بيته حتى مال إلى قَوْزٍ يشرف على البيوت جعل السابقون منه مَلْعَبةً للمَجَارير.
ولأن صدقة لم يملك ثاغيةً ولا راغية، فإنه لم يدقّ وتداً ولم ينصب بيتاً. بل غار إلى المَلعبة حال وصوله ودسّ جذعَه اللدن بين الواقفين صفَّيْن متقابلَيْن. كانت أكتافهم المتلاصقة تهتزّ بجذلٍ وكانوا يتمايلون رجالاً ونساءً. الرجل يدني إليه بنت عمّه، وإن لم تكن بنت عمه فالأدنى من النساء. بدوا كتلة واحدة وهم يلعبون. يجود كل صفّ بعد كل قليل بواحد من اللاعبين. يلتقيان في المنتصف يستحثان الباقين على الغناء. استعجل صدقة النزول لبطن الملعبة وأخذ يرقص بينهم بثوبه الأحمر لا يفتر. يتثنّى مثل عُودِ الخيزران. في جوفه شغفٌ بالحياة أنساه همّه، فأخذ يغرف الغناءَ من أفواه اللاعبين ويبعث فيهم الحماس. عَرَقه يتمدد على ثوبه بحيرةً غامقة من قفا الرأس إلى العُصعص. وهم يرددون معه:
ألا وا هَلي.. ما خيّطوا ثوبي المَلّة
بسلك الحرير اللي على الهون يدرونه
لم يبِتْ ليلة العيد غيرُ الأطفال، وهم قليلون. يُعَدّون على الأصابع. أما الكبار فاستمرّ لعبُهم حتى احمرّت السماء، ثم وزّع الشيخ بمساعدة رجال العشيرة الأعياد. حسبوا الرجالَ، من الكهلِ إلى الفطيم، وقسموهم على ثلاثة. كل ثلثٍ عليه العيد ليوم من الأيام الثلاثة. صدقة كان الأخير في العدّ. غصّ حلقه الناشف عندما ضمّوه للثلث الناقص، فكان حظه في اليوم الأخير.
استمر اللعب بعد صلاة المشهد، أما مُعيِّدو اليوم الأول فراحوا يجهزون لعيدهم. وكان مِن عادة مَن عليه العيد أن يبعث رجاله من الضحى على الحمير يرِدون لأقرب بئرٍ يدلفون منها الماء في القِرَب وصفائح التّنَك. وقد كانت (الحامضة) أقرب الآبار من مِلَمِّ العيد ذاك فاتجه لها الرجال. يغويهم بريقُ الماء في قاع البئر كعينِ ثعبان. أما النساء فقمن بإحضار ما يجِدْن للفطور من رُشوفٍ ومرقوق وطحين ثم غاصت الأيادي في الصِّحاف.
أكل الجميع العيدَ الأول ولعبوا من بعد الزوال إلى منتصف الليل. ولم يَنَم الرجال والنساء بعد الانتهاء من اللعب إلا قليلاً. عادوا للبيوت، وبدأ أحدهم فتل الحكاية فسَرَت الحكايات في البيوت. صار هذا ليومين حتى جاء دور الثلث الباقي في اليوم الأخير. وفيه ورد صدقة للماء مع اثنين من الرجال، هما عبيد القُحريّ وفرج. كانوا في الأصل خمسة، إلا أن صدقة أصرّ على أن يذهب واثنان فقط. بوصولهم (الحامضة) كانت جِمالٌ كثيرة تتزاحم وتحمحم ظمأى حول البئر وبعض الرعاة يَجْبُدون لها الماء. فكّ صدقةُ حبلَ بطنه وسلّم الدلو وباقي الحبال للقُحريّ وفرج اللذيْن وقفا عند الحمير والقِرب. ثم أخذ يشقّ سيقان الجِمال محاولاً دفعها بيديه، بينما يجلد بحبله ما يتهيأ له من أوراكها. نجح قليلاً وأوشك على الوصول لفوهة البئر، لو لم تحرُن ناقةٌ عجفاءُ دون الماء. جلدها أكثر من مرة غير أنها لم تتزحزح. جلد رقبتَها ولطم وجهها وبينما كانت تشيح برقبتها عن الحبل دَفَرت صدقة بنحرها. تراجع خطوتين متعثراً فارتطمت قُنّته بحرف البئر، وسقط في القاع. نزل أحد الرعاة إلى البئر. أوثق الجسد الهامد بالحبال وهشّ الحبل علامةً للرجال في الأعلى. عاد صدقةُ على ظهر الحمار ميتاً وبقيت العشيرة في (أبي سُرَيحة) لثلاثة أيام أخرى لعزاءٍ صامت وسريع ثم مضى الجميع في سبيل حالهم، متفرقين إلى حيث كانوا.
الجدّات في عشيرتي يعدُدْن السنين بالأعياد ويسمّينها بوقائعها. مما يذكرن لي أن أبي تزوّج من أمي في عيد صدقة.