إليك أكتب أنا شتيوي من غرفتي الخشبية في كوخي الصغير في حينا الخشبي المتناثر على أطراف المدينة المحاذية لنا، فأنا منذ خمسة عشر عاماً أختفي هناك.. وأتدثر بهمي وحزني وقلقي.. يشاركني في ذلك صبية وعجوز وكهل اعتراهما الشحوب والأسى والمرض، نختفي هناك، هرباً من البرد والحر الاجتماعي، واحتجاباً عن عيون الأثرياء في المدينة المحاذية لنا، الذين ملّوا رؤيتنا بينهم، من ذلك الكوخ الخشبي المتهالك أخرج من وقت لآخر للبحث عن لقمة صغيرة تسد رمقي ورمق زغب الحواصل معي، يرشح في نفسي حزن ثقيل، حتى لأكاد أختفي من جديد، إنها عملية بحث غير مشوقة، تشبه لعبة الاستغمامة التي لعبتها مع أقراني عندما كنت صغيراً، إنه القلق الذي يحملني على الاختباء، والحماسة التي لا تثير في إعلان الحياة، حياتنا بالضبط تشبه هذه اللعبة، لكنها ليست اللعبة الوحيدة لنا، فنحن نوهم أنفسنا بوسائد مخملية وفرش ناعمة وأقداح باردة ولبن عصافير، عندما أذهب إلى المدينة القريبة لنا، لا أكف عن مراقبة الناس والسيارات الملونة والطرقات وأضواء النيون الشاحبة، كل مرة أذهب إلى هناك، تتسلل نظراتي إليهم من خلال ثقب صغير في جدار نفسي، فأراهم أو أستمع إلى أصواتهم، في واقع الأمر، أن المسافة بيننا طويلة تستحق عناء جنون القياس، عشرة أمتار أو عشرة آلاف كيلو هي في النهاية أرقام لها معنى في علم الحساب، وأنا وهمّي ومن معي وحينا الخشبي الكبير مجرد أسماء على الخريطة لا أكثر، ولأن لكل اسم دلالة، دعني أخبرك عن (الوايلية) التي كتبت عنها أنت ذات مرة والتي أيقن تماماً بأنك تعرف تفاصيلها جيداً، لأضيف بأنها عبارة عن مشاهد أسى لا تدع مجالاً للتورية، وبأن الحياة فيها واقفة على كف عفريت، كل يوم من أيامها ينذر بالرعب، وكل شيء فيها امتحان لطاقة التحمل القصوى، لعلك تتخيل حالها من خلال الصور والمشاهد الإنسانية الحية المفزعة، إلا أنها في الحقيقة عالم آخر، إنها المكان الذي لم نسترح فيه من عذاب الحياة وغربة الذات والمجتمع، إنها سنوات الطفولة والشباب التي رحت أقرأ بقاياها في الوجوه والأماكن، إنها كيمياء من أواصر مصيرية لا أملك مفاتيح لحلها، من وحي الوايلية المطمورة خلف ركام صور الحزن والأسى، تستهويني مغادرة المكان، لأن يومنا هنا غير محروس بسلام، ونادراً ما نستنشق الهواء العليل بعمق، خصوصاً عندما تكون الحرائق ويتصاعد دخان النفايات، تمتلئ السماء حينها وتكتسي بالسواد، ولا تتلألأ فيها النجوم، ولا نعرف كيف نرقص وقتها تحت مطر الصيف، يلازمني قلق شديد، ويطاردني شبح الخوف مما هو مرئي أو غير مرئي، وأظل أختبئ من ريح قوية قادمة قد تقلع نافذتي وبابي، إنني أحلم في كل برهة أن أجلس عند المساء في غرفة هادئة، وأستمع إلى الموسيقى التي أحب، وأن لا يزعجني ضجيج، وأن لا أرى الحمَامات تفر مذعورة من بين أغصان الشجرة اليابسة، ولا يداهمني انقطاع التيار الكهربائي المُستدان من متعة النور، أو مشاهدة التلفزيون أو اللعب بالحاسوب، ولا أضطر إلى شرب قهوتي في الظلام، أو كتابة رسائلي على ضوء الفانوس، أو تأجيل قراءة الجريدة لليوم التالي، إنني أحلم بمشتل زهور، ألامس أوراقاً نباتية استوائية، وأقطع غصناً مزهراً في طريق عودتي إلى البيت لأهديه إلى زوجتي التي تنتظرني بترقب ولهفة، إنني أحلم كثيراً وأنزف كثيراً بالحلم، لكنني أختم كما بدأت بالكتابة إليك.. وأنتظر بأن تُزاح عنا مناخات الجفاف وتضاريس الوعورة والحزن والوحشة والنسيان والمعاناة، وأن تتزين لنا الدنيا كعروس جميلة في ثوب زفافها الأبيض وعطرها الأخَّاذ وجدائلها التي تشبه خيوط الشمس.
ramadanalanezi@hotmail.com