زارني في المغرب الشقيق رجل تجاوز السبعين، آثار السنين واضحة على خديه، وجبينه وجفنيه، وتململ وتضجّر، وتقدم وتأخر، ثم عقد العزم وأبان مراده، وما في مكنون فؤاده، فقال: جئت أطلب غادة، أدنى من العشرين، بلا زيادة، حسناء مياسة، ناعمة ملباسة، تكون في الحسن آية، ذات حنكة ودراية، تحسن القول والعمل، وتصبر علي دون ملل، وتكثر التسبيح، وتجيد الثناء والمديح، بعيدة عن الغضب، مقلّة في الشغب، تجيد الطبخ، وتصبر على النفخ، تؤنس في المآكلة، مدركة لفنون المجاملة، إن أقبلت هيفاء ملقاح، وإن أدبرت ذات رداح، ليست بالنحيفة ولا بالسمينة، ولا بالطويلة ولا بالقصيرة، طول قامتي أو تزيد قليلا، وتمشي الهوينى مشية عليل، تحسن القراءة والكتابة، والمفاكهة والدعابة، لا تملها العين، تتوجد علي من البين. أصغيت له: إصغاء المعجب، وقلت له: لقد أحسنت القول وأجدت، وأبدعت وأبلغت، ولو أني أعرف سيدة بها ما وصفت، لكنت أولى بها منك، ولن أوثرك على نفسي، وإن كنت من الموحدين، الذين لا يجيدون العيش إلا مع واحدة، ولا تتوق أنفسهم إلى ثانية وثالثة ورابعة: وقد تجدُ سيدة أحلامك لديك مالا ليس لدي، إذا كان عندك سحر حلال، وسيف جلجال، وصولة فحول الرجال، رغم أن سنك يناشدك الدعة، وترك الطرق المبتدعة، حتى لا ترهق نفسك، فيومك غير أمسك، ونصحته ولم ينفع، واستصرخته ولم يستصرخ، وأصر على مراده، وتزوج بزوجة كريمة. فتذكرت مداعبة جميلة كتبها الوزير لسان الدين بن الخطيب الأندلسي الشاعر المشهور، والسياسي الجسور والأديب والمؤرخ اللبيب، كتبها إلى فحل من فحول العلم والتاريخ هو أبو زيد عبدالرحمن بن خلدون صاحب المقدمة المشهورة، وتاريخ العبر وذلك عندما تسرّى ابن خلدون بجارية رومية اسمها (هند).
|
وكانا قد تزامنا في الأندلس، لكن ابن خلدون أحس من الوزير لسان الدين ضجراً، وتململاً وحذراً، فغادر الأندلس إلى غايته في المغرب وتونس، وهي رسالة جميلة لكن فيها من القول ما يجعلني أتجاوز جلّه لما فيه من تصريح مباح لا يليق إيراده في هذا المقام، فقال: سيدي لازلت تتصف بالوالج. بين الخلاخل والدمالج، وتركض فوقها ركض الهمالج، أخبرني كيف كانت الحال. وهل حُطت بالقاع من خير البقاع الرجال، وأحكم بمرود المراودة الاكتحال. وارتفع بالسقيا الإمحال، وصح الانتحال، وحصحص الحقّ وذهب المحال. وقد طولعت بكل بشرى وبشر، وزقت هند منك إلى بشر. فلله من عشية، تمتعت من الربيع بفُرُش موشيه، وأبدلت منها أي آسادٍ وحشية. وقد أقبل ظبي الكناس، من الديماس، ومطوق الحمَام، من الحمّام، وقد حسَّنت الوجه الجميل التطرية، وأزيلت عن الفرع الأثيث الأبرية، وصُقلت الخدود فكأنها الأمرية. وسُلط الدلكُ على الجلود، وأغريت النورة بالشعر المولود. وعادت الأعضاء يزلق عنها اللمس، ولا تنالها البنان الخمس، والسحنة يجول في صفحتها الفضية ماء النعيم، والمسواك يلي من ثنية التنعيم. والقلب يرمي من الكف الرقيم، بالمقعد المقيم، وينظر إلى نجوم الوشوم فيقول: إني سقيم. وقد تفتح ورد الخفر، وحكم لزنجي الضفيرة بالظفر، واتصف أمير الحسن بالصدود المغتفر، ورش بماء الطيب، ثم أعلق بباله دخان العود الركيب، وأقبلت الغادة، يهديها اليُمن وتزفها السعادة، فهي تمشي في استحياء، وقد ذاع طيب الريّا وراق حسن المحيّا. حتى إذا نُزع الخف وأقبلت الأكف، وصخب المزمار وتجاوب الدف، وذاع الأرج، وارتفع الحرج، وتجوّز اللوى والمنعرج، ونزل على بشر بزيادة هند الفرج، اهتزت الأرض وربت، وعوصيت الطباع البشرية فأبت، ولله در القائل:
|
ومرّت فقالت: متى نلتقي؟ |
فهشَّ اشتياقاً إليها الخبيثُ |
وكاد يُمزِّقُ سِرْبالهُ |
فقلت: إليكَ يساقُ الحديثُ |
فلما انسدل جنح الظلام، وانتصفت من غريم العشاء الأخيرة فريضة السلام، وخاطبت خيوط المنام عيون الأنام، تأتَّى دنو الجلسة، ومسارقة الخلسة، ثم عضة النهد، وقبلة الفم والخد، وإرسال اليد من النجد إلى الوهد، وكانت الإمالة القليلة قبل المد، ثم الإفاضة فيما يغبط ويرغب، ثم الإماطة لما يشوش ويشغب، ثم إعمال المسير، إلى السرير.
|
وصرنا إلى الحسنى، ورقَّ كلامنا |
ورُضتُ فدْلت صعبة أيَّ إذلال |
|
إذا لم يكن عون من الله للفتى |
فأول ما يجني عليه اجتهاده |
بعد مدة عاد الرجل، وقد ترك زوجته، لذا فمن الحكمة ترك ما يرهق، والبعد عما ينزق، وذكرته بنصيحتي، فدرب السلامة أولى، ورحم الله رجلاً عرف قدر نفسه.
|
|