ربما تقضي المعلمة من عمرها أكثر من ثلاثين عاماً.. وهي تعمل في مهنة التدريس.. تحضر قبل الموظفين بأكثر من ساعة.. وقد تخرج بعدهم بساعات، حيث تدخل ماراثوناً يومياً تكاد معه تنسى أسرتها ونفسها.. بل وحتى شكلها وهندامها.. وحين ينتهي دوامها تخرج من مدرستها.. وكأنها خرجت من ميدان..لا، بل معركة بلا راية! وبلا فوز أو انتصار، وقد تكون بلا نتيجة مأمولة! فإن كانت لديها مناوبة فإنها تبقى في المدرسة، حبيسة بلا قضبان تنتظر خروج آخر طالبة نسيتها أسرتها بدعوى (ما عليها إلا العافية، مكانها آمن مهوب شارع، عندها معلمات مالهن شغل!) وربما تظل حتى بعد صلاة العصر حيث لا يوجد حدٌّ زمني للمناوبة!
لا تستطيع المعلمة أن تتغيَّب بعذر، أو بدونه! لأن هناك منهجاً وخطة وتقييماً وامتحاناتٍ دورية وفصلية ونهائية.. كما أن هناك دفاتر تحتاج متابعة وتصحيحاً، وهناك طابور تتخلله إذاعة صباحية، أو تجهيز ليوم مفتوح تُمارس فيه البيع على الطالبات لتوفير احتياجات المدرسة التي تخلت عنها الوزارة.
فحين تقصر إمكانيات المدرسة عن توفير متطلبات الطالبات الدراسية تجدها تدفع من حسابها الخاص..ابتداءً من أقلام السبورة ودفتر التحضير، وانتهاء بأدوات ودفاتر وأحياناً حقائب لبعض الطالبات المحتاجات! مروراً بتأمين وجبة إفطار لإحدى الطالبات التي حضرت للمدرسة ونسيت وجبتها.. حيث كانت أمها تغط في نوم عميق، بحجة - أيضاً - أن ما عليها إلا العافية، عندها معلمات رواتبهن كرواتب الوزراء! والمؤلم أن بعض المعلمات لم ينلن كامل حقوقهن المالية.. ومع ذلك تجد المعلمة دوماً تراعي وجود تلميذات محتاجات لمساعدات مادية وإنسانية وعاطفية وتربوية!
وبرغم كل هذه الجهود التي تبذلها المعلمة إلا أنها حين تطلب التقاعد المبكر بسبب الإحباطات التي تواجهها في عملها أو التضييق عليها ممن حولها تُقابل بالترحيب والقبول من إدارتها الصغرى والكبرى دون سؤال حنون من أحدٍ عن دوافع ذلك التقاعد أو الهروب القسري!
وبعد أن تتقاعد تدخل دائرة النسيان، فليس هناك تقدير مادي أو معنوي! سواء كانت علاوة سنوية أو تأميناً صحياً لعلاجها من الأمراض التي تكالبت عليها من جراء وظيفتها القاسية أو بسبب تعامل وزارتها الجاحدة.
وما يسري على المعلمة يجري على غيرها في سلك التعليم، مديرة أو وكيلة أو مرشدة طلابية أو مراقبة أو كاتبة، وليست عنهن المشرفات التربويات ببعيدات!
فلماذا هذا الجحود وذلك الخذلان التربوي؟ ولِمَ لا تنهض الوزارة الكبيرة لإيجاد نادٍ تعليمي ثقافي ترفيهي تلتقي فيه المعلمات ومن في حكمهن، يقلِّبن صفحات الأيام، ويسطِّرن مذكرات سنوات العطاء، ويتبادلن الخبرات لعلها تخفف عنهن الذكريات المريرة وقسوة الزمن؟
ألا تستحق المعلمات والمعلمون عموماً أن يُنشأ لهم مستشفى خاص بهم أسوة بالعسكريين وموظفي القطاع الخاص يتابع حالاتهم المرضية ويصرف لهم العلاج اللازم، ويطبطب على ظهورهم ويربت على أكتافهم، ويذكِّرهم بمواعيدهم الصحية.. ولو بمقابل مادي؟
ألا يستحق هؤلاء المعلمون والمعلمات أن تكون لهم جمعية تسعى لتكريمهم والبر بهم ومعايدتهم في المناسبات وإرسال باقات ورود محملة بعبق الامتنان لهم؟! وهم الذين مرت من بين أيديهم وعلى سواعدهم وفوق أكتافهم أرتال من الطلبة تخرجوا مهندسين وأطباء ومحامين وقضاة، بل ملوك وأمراء ووزراء، وبرغم كل ذلك يُواجه المعلمون بالجحود والنكران!
أليس من حق المعلم الذي امتص التعليم رحيق شبابه وتركه نهباً للأمراض وفريسة للأسقام أن يُكرَّم وهو على رأس العمل ويستمر تكريمه ويستلم حقوقه كاملة ويُقبَّل رأسه، ويُشكر؟!
www.rogaia.net
rogaia143@hotmail.com