يخطئ مَن ينظر إلى أن تأريخ الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود يبدأ بتوليه مقاليد الحكم في 26-6-1426هـ أي قبل خمس سنين من يوم الأربعاء الماضي.
والحق أن رؤى الملك عبدالله بدأت مبكرة مع مطلع الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي، حين أوكلت إليه أولى مسؤولياته القيادية بتوليه رئاسة جهاز الحرس الوطني في الحادي عشر من رمضان من عام 1383هـ حيث بدأه من لا شيء تقريباً، وتبينت شخصيته القيادية بصورة لافتة ومثيرة وهو آنذاك لم يكن يناهز الأربعين عاماً من عمره. وهو ما تحقق للحرس الوطني طوال مدة قيادته لهذا الجهاز؛ من تأسيس ووضع بنية تحتية هائلة كالمجمعات السكنية الضخمة والمستشفيات الطبية العالية التجهيز والقدرات، والمدارس والمعاهد والكليات العسكرية، والخروج به من المفهوم القديم عنه كمؤسسة عسكرية فحسب إلى أن يكون مؤسسة حضارية شاملة تسهم في خدمة المجتمع والدولة، وتشارك في النهوض الثقافي والفكري للأمة، وهو ما تبين جلياً في مناشط الحرس الثقافية المتعددة من خلال إدارة العلاقات العامة التي تأسست عام 1388هـ ومن خلال وكالة الحرس الوطني للشؤون الثقافية والتعليمية التي تأسست عام 1402هـ.
وبوعي حضاري وثقافي مبكر استطاع الحرس الوطني أن يكون صلة وثيقة وعميقة بالنخب العربية المرموقة على اختلاف مشاربها الفكرية؛ وذلك باستضافة مئات المفكرين والكتاب سنوياً للحج، وبدعوتهم إلى حضور مناسبة المهرجان الوطني للتراث والثقافة السنوي الذي انطلق عام 1405هـ أي قبل ربع قرن من الزمان، ومن خلال استكتابهم واستقطابهم ليسهموا في تحرير وإمداد مجلة الحرس الوطني بالمادة العلمية العسكرية المتخصصة وبغيرها من المقالات والدراسات الأدبية والفكرية.
وقد كان للحرس الوطني وما زال دور كبير في تنشيط ودفع حركة التأليف والنشر، فأسهم في طباعة عدد من الكتب المهمة وذات التأثير الأدبي والثقافي، ودعم واشترى من المؤلفين أيضاً عشرات الكتب التي تؤرخ وتقدم الصورة الأدبية والفكرية لبلادنا، وتسهم في نقلها إلى عشرات الوفود والنخب المستضافة في المهرجان الوطني وغيره.
لقد انطلق الملك عبدالله في فكره الإصلاحي والنهضوي من المحلية إلى العربية والعالمية؛ فتأثيره البنائي التطويري الذي بدأ محلياً قبل نصف قرن وامتد إلى هذه اللحظة يحمل تباشير الخير والنهضة والتقدم؛ امتد وشملت حركته الإصلاحية المحيط العربي كله، من خلال دعوته إلى التضامن والوحدة وتناسي الخلافات والانشقاقات العربية - العربية المألوفة والمزمنة، ومن خلال خطة السلام العربية، ومن خلال حسه القومي العروبي الصادق الذي طالما تألم واشتكى من سوء الأوضاع العربية ومن الطغيان الإسرائيلي، ومن غياب العدالة الدولية في النظر إلى الحق العربي، وهذا الإحساس العروبي الصادق يتضح جلياً في نبرات صوت الملك عبدالله وفي حماسته الشديدة حين يلقي خطاباته المؤثرة والشفافة التي تصل إلى قلب المتلقي دون سواتر أو حجب أو تكلف لصدقها وعمق كلماتها. وقد كتبت بعد سماع خطبة قومية مؤثرة له مقالة لا يمكن أن أنساها قبل سبعة وعشرين عاماً ونشرتها في «المسائية» المحتجبة عام 1424هـ بعنوان «الأمير عبدالله: الفارس العربي»، ونشرت على نصف الصفحة الأخيرة من الجريدة، وفيها تلمس لملامح القيادة العربية القادمة النابضة بالصدق والعفوية المتمثلة في شخصية الأمير عبدالله.
أما على نطاق الدور العالمي؛ فتأثيره لا يخفى في تقريب وجهات النظر بين الثقافات وتبنيه منطق الحوار لا الصراع بين الحضارات، وعقده لتحقيق هذه الغايات الإنسانية الرفيعة مؤتمرات عدة في المملكة وخارجها.
لن أقف عند ما اشتغل الملك عبدالله على بنائه ورعايته والحدب عليه منذ تولى مقاليد الحكم قبل خمس سنين؛ فهي تتحدث عن نفسها عياناً بياناً؛ من المشروعات العلمية الهائلة كالجامعات النوعية المتميزة، مثل جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، والخاصة بالمرأة كجامعة الأميرة نورة، والجامعات الأخرى التي تناثرت كعقود اللؤلؤ في بلادنا العزيزة، والابتعاث المفتوح إلى كل مدن العالم، والمدن الاقتصادية والصناعية، ومشروعات التوسعة الهائلة في الحرمين، وغيرها من خطط التطوير في الطرق والمواصلات والمستشفيات؛ لا لأنها غير ذات بال؛ بل لأنها - بالنسبة للملك عبدالله القائد النهضوي - شيء قليل تم من كثير منتظر!
بيد أن مما لا يمكن إلا أن يقف عنده المؤرخ المنصف والراصد الأمين بإعجاب وثناء دور الملك عبدالله الحاسم والقاطع والقوي في بتر الحيرة بين الخيارات الفكرية المتنازعة القلقة في ساحتنا الفكرية والدينية؛ فقد مررنا بفترة ما يمكن تسميته بالتوهان الفكري بعد حادثة الحرم عام 1400هـ ليتسنم تيار ما سمي بالصحوة مقود توجيه الرأي العام على أنه التيار البديل المقبول لتيار جهيمان التكفيري، ولكن مطامح الصحويين ليست بأقل من سابقيهم في الوصول إلى أعلى مراكز السلطة والتأثير في المجتمع؛ فانطلقوا في مواصلة استقطاب الشبان وتهيئتهم لأدوارهم المنتظرة، وتعبئة الرأي العام بأحكام قطعية على كثير من مظاهر الحياة الفكرية والأدبية والإعلامية، ثم استغلوا - لاحقاً - حالة الارتباك وانشغال السلطة والمجتمع بحرب تحرير الكويت؛ فجيشوا التيارات الشعبية عن طريق المحاضرات بالكاسيت، ونشر الأفكار المتشددة المتصلبة ضد تيار التحديث والانفتاح بالفاكس وغيره، إلى أن تنامى تيار الصحوة هذا بصورة لافتة في السنوات العشر بعد غزو الكويت، وتولد أو انشق منه فكر تكفيري آخر متطرف، كما انشق عن جماعة الإخوان المسلمين في مصر أواخر التسعينيات الهجرية من القرن الماضي جماعة متطرفة هي جماعة «التكفير والهجرة» أو «جماعة المسلمين» كما تسمي نفسها بقيادة أحد القطبيين المتشددين وهو «محمد شكري مصطفى» التي ارتكبت جريمة خطف واغتيال الشيخ محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف المصري السابق عام 1397هـ. وما حصل في مصر تكرر طبق الأصل لدينا في السنوات العشر بعد حرب غزو الكويت عام 1411هـ ودخل مجتمعنا تحت طائلة استقطابات فكرية حزبية متعددة من جماعات ما يسمى بالإسلام السياسي؛ فجيشت المشاعر على النظام السياسي، وحزبت الناس، وقسمتهم، وفرقتهم شيعاً، وصنفت، وأصدرت أحكاماً نافية على المجتمع بسلطاته وعلمائه وكتابه ومفكريه، واستعدت للدخول في مواجهة مسلحة مع السلطة، وهو ما حدث بالفعل بتجهيز ثكنات عسكرية لا مخابئ فحسب، وبتهيئة انتحاريين من شبان حمقى مغرر بهم، ومن تجهيز الرأي العام المحلي للاقتناع بدعاوى هذه الفئة الضالة؛ فكانت حادثة العليا عام 1416هـ بداية المواجهة مع هذا التيار التكفيري، الذي لم يرتدع بتطبيق أحكام الشريعة على من ارتكب تلك الجريمة، بل استمر في طريق الغي وبدأ في تجميع وبناء الثكنات العسكرية حتى كتب الله فضح نوايا التكفيريين بانكشاف مخزن الأسلحة الهائل بحي الجزيرة بالسلي عام 1423هـ، ومن هنا دخل المجتمع كله في حالة حرب عسكرية وفكرية إلى هذه اللحظة.
قيادة الملك عبدالله الشجاعة والفذة لهذه المواجهة الفكرية والمسلحة مع «الفئة الضالة» أو التكفيريين لم تنطلق من فراغ، بل من منطلقاته الإسلامية المستنيرة، ومن شخصيته العروبية الشجاعة، ومن وعيه الحضاري الإنساني. وهي أيضا جزء مهم وبنائي ضمن غاياته الكبرى في التنوير والانفتاح، وكيف له أن يتأتى إلى تحقيق مأرب واحد من مآربه الكبرى في التواصل والتعاطي مع الثقافات الإنسانية الأخرى المؤثرة والإيجابية، وكيف له أن يخطو خطوة واحدة متقدمة في إنهاض المجتمع وتمدينه وتحديثه؛ وهو يواجه فكراً أسود محتقناً رافضاً كل جديد، وكارهاً كل مختلف، بل معادياً كل ما لا يعرفه أو يعيه ويدركه؟! وإذا كان هؤلاء التكفيريون يعادون ويرفضون أبناء ملتهم، ويحاربون شركاءهم في الفطرة والمعتقد والتقاليد واللغة والتربة؛ فكيف بهم مع مَن يختلف معهم عقيدة وثقافة ومنطلقات؟!
إن التاريخ لن يداهن أو يحابي أو يجامل، ولن يخلد في سجله إلا العظماء من القادة المميزين الذين ينقذون مجتمعاتهم من أزمات، أو يخرجونها من حالات تردٍ، أو يسعون بها إلى مراقي التقدم والازدهار والنهوض. وللملك عبدالله - وفق هذه القياسات التاريخية - نصيب واف، وحظ وافر؛ فقد أنقذ مجتمعنا من حالات ترد وتوهان فكري وتخبط في الاستقطابات الأيديولوجية، وقاد البلاد وفق رؤية حضارية مستنيرة ومنفتحة خرجت بنا من تلك البلادة والاستلاب الذهني والغيبوبة الصحوية الفكرية إلى مرحلة نابضة بكل ما هو مثرٍ وجديد من روائع الفكر وثمار التواصل مع الحضارات الأخرى. لقد أخرجنا الملك عبدالله من حالة مرة ومزرية وضعنا فيها التيار المتطرف أمام العالم - بكل أسف -؛ فقد كنا - بما ترتكبه وما تعتقده وتنطوي عليه فئة قليلة متطرفة - إما كارهين أو مكروهين! وكان العالم يعتقد واهماً أن كل حدث إرهابي في العالم وراءه أحد المنتمين إلى وطننا؛ بتأثير ما ترسخ في الذهنية العالمية عن مجتمعنا وما سعت الجماعات المتطرفة إلى رسمه عن البيئة الثقافية السعودية، وأتذكر بهذه المناسبة أنني دعيت إلى مناسبة ثقافية في دولة عربية وكان من المفترض إقامة معرض للكتاب السعودي؛ ولكن الكتب تأخرت عن الوصول، وحين سألنا عن سبب تأخر وصولها، تبين لنا أن التأخير متعمد ومقصود؛ لئلا تعرض الكتب السعودية؛ لأنه يخشى من أنها تحمل فكراً متطرفاً!
لقد أنقذنا الملك عبدالله من أزمة التكفير وخرج بنا من حالة التوهان ووضعنا في خانة التلقي المنفتح بدون حساسية شديدة للجديد المثري، وسعى إلى التخلص من هيمنة العادة والتقليد، ودفع بعجلة الاقتصاد وحرية الرأي ومشاركة المرأة ومرونة الإعلام خطوات إلى الأمام.
ومن المنتظر أن نشهد في قادم الأيام من ولاية هذا الملك المصلح - وندعو الله له بطول العمر - خطوات تطويرية غير عادية؛ مثل: مشاركة المرأة في مجلس الشورى، ومجلس الوزراء، وقيادتها للسيارة، وخطوط السكك الحديدية من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب بأحدث تقنياتها، وكذلك بين المدن الرئيسة، والتوسع في المستشفيات، والجامعات، وتقليص البطالة، والارتفاع بمستوى المعيشة، ومحاربة الفقر، وتفعيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتدعيم النزاهة.
وسنرى في عودة أفواج الدارسين الذين سيتجاوز عددهم مئتي ألف ما سيسهم في تحقيق رؤية ملك التنوير والتحضر والعدالة، من تغيير في كثير من القناعات الاجتماعية، وتيسير للأخذ بسبل التمدين والتحديث لهذا المجتمع في مناحي الحياة كافة.
وبهذا التميز الفذ في شخصية الملك عبدالله، وبتعدد جوانب الفرادة، وبتراكم الإنجازات ألا يصح لنا أن نعتقد أننا قد دخلنا إلى زمن عبدالله بن عبدالعزيز.
ksa-7007@hotmail.com