أشرت في مقال الخميس الماضي إلى أن هناك من الكتّاب والمفكرين من تخوّف من سك مصطلح «الأمن الفكري»، فهو في نظرهم خنق للحريات، وتصفيد للعقول، وتكميم للأفواه، وقتل للإبداع، ولعل من أبرز هؤلاء المتخوفين فهمي هويدي الكاتب الإسلامي المعروف؛ إذ كتب قبل فترة ليست بالقصيرة مقالاً عنونه ب(بدعة الأمن الفكري) ومما جاء فيه: «... لا أخفي قلقا من صك وتداول مصطلح (الأمن الفكري)، وهذا القلق يتضاعف مرات إذا عرفنا أن الجهات الأمنية هي التي أطلقته؛ الأمر الذي يضفي على العملية عنصرا بوليسيا لا تخفى دلالته. صحيح أننا درجنا على الحديث عن الأمن القومي والأمن الغذائي والأمن المائي وتطرقنا إلى الأمن الاجتماعي والسياسي، وكان بوسعنا في كل مرة أن نحدد بصورة أو أخرى الدائرة التي يلتمس فيها ذلك (الأمن) وملامح وجوده على أرض الواقع، لكن إضافة الأمن الفكري إلى القائمة تضعنا بإزاء مصطلح فضفاض للغاية، لا تعرف حدوده، وتحيرنا كثيرا مقاصده. فضلا عن أنه يثير عديدا من الأسئلة حول معايير قياس الأمن المنشود، والجهة التي يحتكم إليها في تحديد مدى توافر ذلك الأمن من عدمه.. إنني أخشى أن يكون مصطلح الأمن الفكري مرادفا للقمع الفكري، وهذا الهاجس لن يزول إلا إذا أخرجنا الأمن من الموضوع، وكففنا عن مطالبة أجهزته بتدارك آثار فشل السياسة وخيباتها!!».
والمشهد الثقافي - الفكري السعودي يكذب هذه المقولة ويرد عليها، فالفضاء الفكري - الثقافي يتسم بمساحة من الحرية واسعة، ويشهد حوارات ومطارحات عدة، وذات مسارات مختلفة وسياقات متعددة، علاوة على أن تفكيك المصطلح يشي بدلالات أوسع ممّا يظن مثل هذا الكاتب كحماية حقوق الملكية الفكرية على اعتبار أن المخترعات والمؤلفات تعدُّ أفكاراً يجب أن يوفر لها الأمن الكامل ضد أعمال القرصنة التجارية. وكذا توفير بيئة آمنة تمكّن الأطفال من تطوير قدراتهم وتنمية مواهبهم، والقائم على ضبط المصطلح وتحديد آفاقه هم أساتذة الجامعات المتخصصون، وكذا الخبراء العارفون والمتميزون، خاصة بعدما تأسس كرسي صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود لدراسات الأمن الفكري بمبادرة كريمة من سموه - حفظه الله - الذي أعلن رسمياً عن ميلاده في 5-9-1428هـ، وفي 23-25 - 5-1430هـ رعى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز المؤتمر الوطني الأول للأمن الفكري (المفاهيم والتحديات)، الذي عُقد في رحاب جامعة الملك سعود، وشارك فيه أساتذة الجامعات وأهل الاختصاص، وفي اجتماع وزراء الداخلية العرب السابع والعشرين المنعقد في مطلع شهر ربيع الآخر هذا العام في تونس العاصمة طرح صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية السعودي الرئيس الفخري لمجلس وزراء الداخلية العرب «مشروع الاستراتيجية العربية للأمن لدراسات الأمن الفكري»، وتتميز هذه الاستراتيجية باستيعابها خصائص المجتمعات العربية المستمدة من الثوابت والقيم الإسلامية التي تجمع بينها وتراعي تطلعاتها وبرامجها التنموية، والتحديات التي تواجهها بسبب ظهور بعض التيارات الفكرية المتشددة التي تتسم أطروحاتها بالغلو والتطرُّف وإثارة الشبهات مستفيدة في ذلك من بعض الظروف والمتغيرات السياسية، وترتكز الاستراتيجية على القيم الدينية السمحة والتقاليد العربية الراسخة، وتشمل كل ما يحفظ حقوق الإنسان العربي، ويضمن تعزيز المناعة الفكرية لديه من خلال تنفيذ منظومة من البرامج والتدابير الوقائية والعلاجية هدفها في النهاية بناء هوية فكرية معتدلة وفاعلة، واعية بالثوابت الدينية والاجتماعية وقادرة على الانفتاح الإيجابي على الآخرين والتعامل مع تحديات العصر بكل ثقة واقتدار. وخلال كلمته التي ألقاها - حفظه الله - في افتتاح الاجتماع أشار إلى أن المؤسسات الأمنية والتعليمية في المملكة العربية السعودية اهتمت بإجراء دراسات متعمقة وأبحاث متخصصة في قضايا الأمن الفكري، من منطلق منهج الوقاية ونهج التحصين ضد الفكر المنحرف الذي يهدد المجتمع وسلامته واستقراره، «وهو جهد أثمر في محصلة نتائجه تقديم مشروع استراتيجية عربية للأمن الفكري نسعد بطرحها ضمن أعمال الدورة السابعة والعشرين لمجلسكم الموقر بأمل أن تكون منطلقا لرؤية أمنية عربية شاملة، تسهم بإذن الله تعالى في تعزيز الجهود الرامية إلى بناء حصانة فكرية لدى الفرد والأمة ضد المؤثرات الفكرية المنحرفة المهددة لأمننا العربي المشترك».
واعتبر الأمير نايف أن المسؤولية الأمنية «وإن كانت واجبا ملزما لأجهزة الأمن فإن نجاحها مسؤولية مشتركة على الجميع؛ فالكل مستفيد من استتباب الأمن، والكل أيضا متضرر بغيابه أو ضعفه لا سمح الله». ترى بعد هذا الإيضاح والتأصيل يبقى للتخوف مبرر أو حتى موطئ قدم أم أنها الفتنة والتهويل؟ وإلى لقاء، والسلام.