قبل عشر سنوات، كنتُ أسكن في منزل عجوز هولندي اسمه هانك، في إحدى المدن البريطانية، وهو رجل عجوز يعيش وحيداً، ويؤجر الغرف الزائدة في منزله للطلاب الأجانب، بعدما تخلت عنه زوجته، وضاعت تجارته، مما جعله يفضي لي بحزن: لو جاء أحدهم وقال لي بأنك ستؤجر يوماً غرف منزلك بسبب الحاجة لقلت له إنك مجنون!
المهم أنه انقضى الشهر الثاني من سكني معه، وطافت أيام خمسة، وهو يطالبني بسداد أجرة الشهر الثاني المنقضي، ولأنه لم يتم تحويل مكافأتي كطالب مبتعث على حسابي، رجوته بأن ينتظر قليلاً، حتى عدت يوماً وقد تدبرت المبلغ، ففوجئت بأن مفتاحي فشل في فتح باب المنزل، وبعد محاولات فاشلة همزت زر جرس الباب، ففتح «هانك» بعدما أوثق السلسلة جيداً، حيث بدّل القفل في غيابي، فصاح غاضباً: اذهب بعيداً من هنا! أخرجت الجنيهات الخمسين وأريته إياها، فمد أصابعه من خلال شق الباب واختطفها، ثم قال لي بعدما فتح الباب: أمامك خمس دقائق لتأخذ أغراضك وتذهب، ولو تأخرت دقيقة سادسة سأتصل بالشرطة! أخذت أغراضي على عجل، وخرجت مهاناً وحزيناً.
لا أعرف كيف عبرت هذه الذكرى الحزينة، حينما قرأت خبراً عن160 مبتعثا سعوديا يواجهون مصيراً مجهولاً في هولندا، ليس الرابط حتماً هي تعنت الجامعات الهولندية في قبولهم، في مقابل تعنت «هانك» في تفهم وضعي كطالب أجنبي وغريب، ينتظر بضعة جنيهات إسترلينية تهبط كالسلاحف في حسابي البنكي الخالي، بل الرابط هو حالة الطالب السعودي المبتعث إجمالاً، ما يعانيه من عدم استلام مكافآته بانتظام مما يعرضه للاستدعاء القانوني، ما يعانيه من صعوبة توفير قبول الدراسة في الجامعات الأجنبية، خاصة أنه مثل «الأطرش في الزفّة» لا يعرف أنظمة وقوانين البلد بأكمله، فكيف يعرف تفاصيل الدراسة والقبول، فلماذا لا تقوم السفارات السعودية والملحقيات الثقافية السعودية بدور إيجابي، بدلاً من اقتصارها على استقبال أسماء المبتعثين وقيدهم وتحويل المصروف الشهري المتأخر لهم، لماذا لا تنورهم بالطرق المناسبة للحصول على قبول، لماذا لا يكون هناك مشرف متابع لكل مجموعة طلاب لا تتجاوز العشرة، أعرف أن الكوادر العملية في الملحقيات لا تكفي، ولكن مع مشروع ضخم ومهم، كمشروع خادم الحرمين للابتعاث، لابد من الانتباه لكل الخدمات المساندة من أجل إنجاحه.
أمر آخر لفت نظري، وهو أن الطالب الأوروبي يدفع 1800 يورو فقط للدراسة أربع سنوات، بينما تدفع الدولة مبلغ 32 ألف يورو لدراسة الطالب السعودي في السنة الواحدة، وهذا يعني أن كلفة دراسة طالب سعودي واحد سنوياً تكفي لتخريج 18 طالباً أوروبياً خلال أربع سنوات، هل يعقل هذا؟ هل الخلل في الاتفاقيات مع الجامعات الأجنبية؟ أم أن هناك استغلالاً صريحاً؟ أعتقد أن السعودية الآن تمتلك ثقلاً واضحاً، ومورداً مهماً لكثير من دول أوروبا، في مجال تعليم أبنائها، خاصة إذا علمنا أن الطلاب السعوديين هم ثاني أكبر جالية أجنبية في الجامعات البريطانية، لذلك من الطبيعي أن تمارس ضغوطاً في توفير أفضل الشروط للقبول والدراسة والعيش في أوروبا، وإلا ما معنى أن يكتشف الطلاب من خلال رد السفارة السعودية في ألمانيا بأن جميع الاتفاقيات مع الجامعة الهولندية ليست إلا كلام مبدئي، لا يلزمها بشيء، وما معنى أنهم ذهبوا إلى الجامعة لدراسة البكالوريوس في الطب واكتشفوا أن الجامعة تمنحهم دبلوماً صحياً؟
ماذا سيفعل هؤلاء المساكين في غربتهم، أمام مدير جامعة صلف لا يختلف عن «هانك» يقول لهم: استمتعوا في هولندا لأنكم ستغادرون بعد شهرين! هل سيبقون ما تبقى لهم «يتسدحون» في الريف الهولندي، يتأملون الطبيعة والمطر والأبقار الهولندية، ويغنون بصوت الراحل طلال مداح: يا «بعثة» تحت المطر، تمشي ويتبعها «بقر»؟