شاركت أطياف إسلامية وعربية وغير إسلامية عدة في التنديد باعتراض إسرائيل لسفن قافلة الحرية المتجهة إلى غزة، وأدانوا الموقف المتعسف والظالم والمتعجرف، بل والدموي الذي اتخذه الإسرائيليون من المشاركين في سفن الأسطول السلمي والإغاثي؛ وهذا أمر يشكرون عليه، وبالنسبة لطلبة العلم الديني يتطلبه إنكار المنكر الواجب على عامة المسلمين وخاصتهم إنكاره.
غير أن ما أثار استغرابي في البيان الذي وقعه مجموعة من طلبة العلم السعوديين، أن بينهم من يرى كفر من استحل الاختلاط. قافلة أسطول الحرية كانت قافلة (مختلطة)، شارك فيها النساء والرجال جنباً إلى جنب، دون أن يكون هناك أية عوازل أو موانع بين الرجال والنساء؛ حيث كان واضحاً من خلال الرسائل التلفزيونية التي تم بثها تلفزيونياً إلى العالم من هذه السفن أن (العَزْلَ) بين الإناث والذكور غائبٌ تماماً. الشيخ عبدالرحمن البراك - كما هو معروف - يُكفر من يستحل الاختلاط، ويحكم بردته، ويجيز قتله، كما في فتواه المشهورة التي سارت بها الركبان، وسانده بعض مشايخ الحركيين، حتى أصبحت مثالاً للتزمت والتشدد والبعد عن روح الإسلام المتسامح، ناهيك عن نسفها (فقه الاختلاف) نسفاً كاملاً؛ فليس بعد التكفير واستحلال دماء المسلمين مجال للاختلاف.
هذا الشيخ كان على رأس قائمة بيان المؤيدين لأسطول الحرية، والمباركين له، ونسي أن (جميع) من شاركوا في هذا الأسطول من النساء والرجال المسلمين لا يؤمنون بالفصل المتعسف بين الرجال والنساء، وقد مارسوا عملياً ما يؤمنون به على ظهر السفن المتجهة إلى غزة؛ وهم بذلك يُصبحون حسب الفتوى (كفاراً) مرتدين يجب استتابتهم أو قتلهم كما جاء في سياق الفتوى.
والسؤال: كيف يُناصر البراك كفاراً مرتدين يستحقون القتل وليس المناصرة حسب فتواه؟
هذان الموقفان (المتناقضان) تشي بفكر الشيخ البراك، وتكشف لنا أن إقحامه للعقيدة والكفر والإيمان في قضية (تجريم) مستحل الاختلاط حتى إذا لم يُفضِ إلى مُحرم، كان موقفاً (حركياً) أراد منه أن يُرضي (الحركيين) ويستقطب رضاهم ومباركتهم وربما زعامتهم؛ وفي الوقت ذاته لا يُريد أن يفوّتَ فرصة أن يكون من ضمن المؤيدين والمناصرين لأسطول الحرية، فمثل هذه المواقف (الإعلامية) سيكون لها بلا شك انعكاسات إيجابية على كل من كان هدفه السمعة والشهرة وتصيّد الفرص للبروز؛ فوقع الشيخ هداه الله في التناقض دون أن يعي!
ويعلم الله أنني لا أتعمد إحراج هذا الرجل، فأنا لا أعرفه، ولم ألتق به في حياتي، غير أن (التكفير) والتساهل فيه، وإقحام قضايا (العقيدة) في المسائل الفقهية الخلافية، ممارسة لا يمكن السكوت عليها، فهي من أخطر الأخطار التي يجب أن نتصدى لها. لك أن تتعاطف مع أية (حركة)، وأن تقول رأيك، غير أنك يجب كطالب علم ناهيك عن عالم أن تقرأ المآلات قراءة متزنة وتدرك أن من (كفَّرَ) مستحل الاختلاط فقد ارتكب شططاً، لا بد وأن يترتب عليه تبعات خطيرة؛ فقد تُسفك بسببه دماء، وتُخرّبُ بيوت، وتنتهك حُرمات؛ ومثل هذه الفتاوى غير المسؤولة، والمتعجلة، يجب علينا أن نقف في وجه قائلها بكل ما نملكه من قوة، دون مجاملة أو مواربة؛ فتكفير المسلم ليس أمراً هيناً حتى يُصبح سلاحاً في معاركنا الثقافية، أو الخلافية.
والبراك كما في كثير من فتاواه يذهب بعيداً في إنكاره في قضايا الخلاف إلى درجة الغلو، أو يُحمَّل القضية أكثر مما تحتمل، والسكوت عل مثل هذه الفتاوى، وعلى مطلقها كائناً من كان فيه (تفريط) بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ فعقائد الناس وأرواحهم لا يمكن أن تترك (لعبة) على ألسنة المتزمتين أيها السادة.
إلى اللقاء.