يعد الوطن بمثابة الحمى العالي الذي يذود عن ساكنيه من آفات الدهر والعدو والفقر والأمية والوباء وعوز الحاجة، ومن لديه مثل هذا الوطن سيعض على أمنه واستقراره ومستقبله بالنواجذ، وستكون مصالحه مقدمة على أي اعتبار آخر.
في الآونة الأخيرة أصبح الحديث عن المواطنة وشروطها وواجباتها وحقوقها شأناً عاماَ ومصلحة عليا عند الجميع، فالمواطنة كمفهوم تحتاج إلى طرح عميق وإلى ترسيخ مفاهيمه الحديثة من خلال الفعاليات الثقافية السعودية، وذلك من أجل الوصول إلى صيغة متفق عليها عن ماهية المواطنة، ولعل الضبابية في هذا المصطلح تكمن في تداخله مع كثير من المصطلحات القديمة كالأممية الدينية والتيارات القبلية والقومية والمذهبية الطائفية، ويحتاج الأمر إلى عمل دؤوب من أجل فصل المواطنة عن العلاقات والانتماءات الأخرى.
يعد مفهوم المواطنة بعداً جديداً في الثقافة الإسلامية، وذلك لأن شرعية الدولة في التاريخ الإسلامي دينية، وكانت أغلب الشعارات التي تقوم عليها الثورات نصوصاً شرعية، يتم رفعها من أجل خلع الشرعية عن الدولة القائمة، لكن المواطنة خرجت في العصر الحديث كمفهوم مدني حديث، من أجل عمر أطول للدول، ولمزيد من الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي..ما يتطلب مراجعة لكثير من المصطلحات التاريخية والانتماءات الخاصة، فالعلاقة بين المواطنين والمجتمع من المفترض أن تكون علاقة تحكمها الحقوق والواجبات والمساواة تحت مظلة القانون، ويحرسها تكافؤ فرص العمل بين الأفراد المنتمين للوطن.
المواطنة حسب ابن منظور في لسان العرب موطن الإنسان ومحله الذي يعيش فيه، والمواطن حسب هذا التعريف هو الإنسان الذي يستقر في بلاد وينتسب إليها، وعرفت دائرة المعارف البريطانية المواطنة ( citizenship) بأنها (علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة، والمواطنة تتجاوز القيم والسلوكيات إلى المسؤولية التي يجب أن يتحلى بها المواطن في علاقاته داخل الوطن.
يؤدي غياب ثقافة الحقوق والعلاقة بين المواطنة والقانون إلى حدوث الفوضى ورفع الشعارات القومية والدينية داخل الوطن، ويكمن السبب لأن بعض الأطروحات الثقافية تقدم الوطنية على أنها تاريخ وقيم وأخلاق وجذور، وهو ما يخالف أبسط أبجديات المفاهيم الحديثة، ولعل أكثر القضايا سخونة قضية الإرهاب، فالخطاب الحالي للإرهاب الديني يعتمد على حق الوصاية على المجتمع، فهو يحكم على المواطنين من خلال أحكام دينية تتداخل فيها أحكام التكفير والإقصاء والتجهيل، وفرض الحقيقة الأحادية، ما يجعل من الواقع قابلاً للانفجار، فعلاقات المواطنة إذا تداخلت معها التكفير والتبديع يصبح التسلط والخوف طرفي حبل العلاقة بين السلطة والمجتمع، ومثل هذه الأحكام ليس لها علاقة بحقوق المواطنة العصرية، ولا يمكن أن تكون الفتاوي وأحكام التكفير أساسا قانونيا لعلاقة المواطن بالمواطن حسب مفهوم الدولة العصرية .. وعلاقات الإنسان بربه أسمى بكثير من تكون مسرحاً للصراعات السياسية والإقصاء.
تكمن إشكالية الوطن الحديث في علاقة المواطنة مع الانتماءات الإنسانية والدينية والعرقية، إذ توجد في مختلف المجتمعات الحديثة تيارات عابرة للحدود، فالروابط الدينية بمختلف مذاهبها وطوائفها تعبر الحدود من مختلف الاتجاهات، وتمتد انتماءاتها إلى الأماكن البعيدة، كذلك تتجاوز الانتماءات القبلية العرقية والقومية إلى الخارج، وقد يعد ذلك أمراً مشروعاً إذا لم تتقاطع تلك الانتماءات مع العلاقة القانونية للمواطنة، والتي تتحدد مسؤوليتها عبر ميزان المساواة أمام القانون في قضايا الحقوق والواجبات، لكن الوضع يصبح غير قانوني أو مشروع إذا حدث تقاطع ما بين التيارات العابرة للحدود مع علاقة المواطنة، عندها تحدث الاستثناءات الفئوية والطبقية، كذلك قد يكون ذلك مبرراً للتطرف والإقصاء.