الكلمات الحزينة لا تكفي، والدموع المحرقة لا تفي، لأن الألم الدفين في أعماقي هو حالي، وفقدي رمز الإنسانية الصادقة الوفية فيه هو مصيبتي وأوجاعي. أن تفقد مليونات من المال - ربما قريباً تعوضها - أما أن تفقد إنساناً نبيلاً ورجلاً وفياً، تجسمت فيه كل معاني الكرامة - وتمثلت فيه كل حقائق الصداقة فهذا هو الذي لا يعوض.. وخاصة اليوم، ونحن في عصر عزّ فيه الأوفياء وقلّ المخلصون الأصفياء.
|
عزائي لكل من يعرفه، وكل من ارتبط به، عزاء المفجوع في أعز ما يملك الإنسان، وفقد أقوى ما ارتبط به عمق الوجدان.
|
لماذا أنا حزين.. لأن الذي فقدناه هو شيخي وأستاذي ومعلمي الشيخ محمد الزنان ذلك الذي أمّ الناس سنوات طوال في مسجده في حي سلطانة.. حيث كان لي ذلك أول مرة منذ سنوات طويلة - كنت طفلاً - صاحبت فيها والدي مرة لصلاة التراويح بمسجده الذي امتلأ بالمصلين الذين جاءوا من كل مكان ليسعدوا بالصلاة معه لقراءته الخاشعة، وصلاته المتأنية. وتمضي الأيام.. ويدخل علينا شيخنا - رحمه الله - ليعلّم لنا مادة الفقه في الصف الثاني ثانوي بالمعهد العلمي.. قال في أول لقاء بطلابه: اسمي محمد الزنان، وأرجو أن أكون صديقاً لكم قبل أن أكون أستاذاً.. وفعلاً كان صديقاً قريباً لنفوس كل طلابه.. إذ يخصص وقتاً لسماع ما عندهم من مشكلات، أو يحقق لهم ما لديهم من مطالب ورغبات.. يكتب كل طالب ما يريد، ويرسله إليه.. ويتولى - رحمة الله عليه - الإجابة عن كل سؤال. والسعي لتحقيق كل مطلب.. وكان مطلبي الغريب آنذاك - والذي سعى حتى حققه لي هو الزواج.. وتحقق بمن تشاركني الحياة اليوم - أم نايف. تنقل - رحمه الله - بين بلاد الغرب والشرق بعد أن ترك التدريس للعمل التجاري.
|
بقيت علاقتي بذلك الإنسان النبيل - قويت كل يوم محبتي لهذا الرجل الكريم.. حتى في غيابه ما كنت أنقطع عن مراسلته والاتصال به - لأنه كان سبيل كل الخير الذي أحياه في حياتي.. بعد أن كان صاحب الفضل في العلم الذي أسّسه لي وزودني به في سنواتي. كان - رحمه الله - جوهرة فريدة في عالم تلاشت فيه الجواهر الحقيقية في الرجال.. لكن الموت لا يترك أحداً.. بل يختار كرام الرجال:
|
الموت يختار النفيس لنفسه |
كما نختار نحن فما اعتدى |
قد نال منا درةً مكنونةً |
كانت لأمثالها الدراري حُسَّدا |
كنز ذخرناه لنا فاغتاله |
لص المنية خاطفاً متمردا |
العزاء هو السبيل لتخفيف الأحزان.. وذكر الفقيد بما كان له من عظيم المآثر هو تهدئة لمنار الوجدان.. وشيخنا الذي فقدناه أثير بكل حزن.. جدير بكل بكاء..
|
لو كنت أملك فدية لفديته |
لكنه حتم القضاءِ الواجبُ |
قد غاب شيخ الأوفياء حقيقة |
في موته موت الرجولةِ غالبُ |
إني لأبكي قدر من عرفوه إذ |
حزني تجمع في فؤادي لاهبُ |
دعاء بالرحمة والغفران لهذا الذي ستبقى آثار هديه وعلمه وخيره فينا مدى الأزمان.
|
وإن جميعاً لله.. وإنا حتماً إليه راجعون.
|
|