بدأت علاقتي بفضيلة شيخنا العلامة الورع الفقيه الأصولي النادر الزاهد ذي الأخلاق الكريمة منذ سنوات كثيرة صحبت الشيخ - غفر الله له - في مدينة الرياض وخارجها لإلقاء بعض الدروس والمحاضرات ، كنت مراقباً لأفعاله وسائلاً عن أحواله فوقفت على كنز من العلم والأخلاق مدفون في ذلك الجسد الذي حمل اسم عبدالله بن غديان - تجاوز الله عنه. سألت الشيخ عن قدومه إلى الرياض وطلبه للعلم فأجابني بقوله: قدمت الرياض للعمل عام 1363هـ، ثم بعد مدة من العمل عزمت على الدراسة فجعلت في الصف الثالث الابتدائي لمعرفتي ببعض الأمور، (الشيخ -رحمه الله- قد درس مبادئ العلم في بلده قبل قدومه للرياض)، وحين تخرجت منها عام 1368هـ أمر الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أن يحجج الطلاب الذين تخرجوا تلك السنة فهي أول حجة لي. واصل الشيخ دراسته حتى تخرج من كلية الشريعة 1376هـ، فعين رئيساً لمحكمة الخبر، ثم نقل للتدريس بالمعهد العلمي بالرياض ثم بكلية الشريعة، ثم نقل إلى دار الإفتاء عام 1386هـ ليصبح عضو إفتاء، ثم عين عضواً للجنة الدائمة للإفتاء منذ عام 1391هـ. حدثني أحد طلاب الشيخ ممن تجاوز الستين قائلاً: لما كان الشيخ مدرساً في المعهد العلمي وكنت أحد الطلاب فإذا جاء آخر السنة قال الشيخ لنا: يا أبنائي أخشى أن أكون ظلمت أحداً منكم بكلمة أو غيرها فحللوني ثم يبكي الشيخ فنبكي نحن الطلاب لبكائه واستسماحه لنا.
طلب سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز من الشيخ عبدالله أن ينتقل معه إلى التدريس في الجامعة الإسلامية، فاعتذر الشيخ بأنه هو القائم بشؤون والدته وأنه لا يريد أن ينقلها من مكان إلى آخر لمصلحته الشخصية، فقال الشيخ ابن باز: عذرتك، وأوصيك ببرها، قال الشيخ عبدالله: فلما ذهب ابن باز للمدينة وذهب الشيخ محمد الأمين الشنقيطي إلى المدينة للتدريس في الجامعة كُلفت بأن أسد محله في تدريس مواده في الأصول في كلية الشريعة بالرياض, وكانت ستة عشر درساً كلها في أصول الفقه، وكنت - من باب التحدث بنعمة الله عليّ - ألقيها وأنا واقف وليس معي كتاب اقرأ منه، بل كنت حين ألقي الدرس كأني أنظر إلى الكتاب من استحضاري لمسائله.
كان الشيخ وفياً لمشايخه متذكراً فضلهم، فمرة في يوم عيد الفطر سنة 1429هـ ذهبت لزيارة الشيخ والصلاة معه في مسجده العصر فلما حلت الإقامة قدمني الشيخ للصلاة فامتنعت فأصر فصليت بهم صلاة العصر، وبعد الانتهاء من الأذكار جلست أمام الشيخ أسأله حاله وأدعو له بأن يتقبل الله منه صيامه وقيامه ثم جرى الحديث في أمور كثيرة. وحضر بعض الإخوة للسلام عليه ثم سئل الشيخ عن طلبه للعلم وملازمته للشيخ عبدالرزاق عفيفي فقال الشيخ: لقد استفدت من الشيخ عبدالرزاق فائدة لم يستفدها أحد مثلي، وقال: إن الشيخ عبدالرزاق قال: لم يستفد مني أحد كما استفاد عبدالله بن غديان، قال الشيخ عبدالله وقد عرفت الشيخ منذ عام 1374هـ ولزمته ما أمكنني حتى توفي في عام 1415هـ، ثم توقف الشيخ عبدالله عن الكلام وقد أغرورقت عيناه وهو يقول بشفتيه: الله يغفر له الله يغفر له، فلما كان الوضع كذلك واليوم يوم عيد، صرفتُ الموضع من الكلام عن المشايخ إلى الكلام عن كتب أهل العلم فقلت للشيخ: الله يجعلكم في الجنة وجدت على كتاب الآمدي في الأصول تعليقات للشيخ عبدالرزاق - الله يجمعنا به في الفردوس الأعلى - ومنصوص أنها من كتابتكم، فقال الشيخ: صحيح هذا يوم كنا ندرس بالجامعة، والشيخ هو المدرس، فكان الشيخ يعلق وكنتُ أكتب تعليقات الشيخ، وهي الموجود على حاشية الكتاب.
وهذه فائدة لطلاب العلم، فمَهَنا الشامي جاء في سيرته أنه لزم الإمام أحمد أربعين سنة، وهذا شيخنا يلزم عبدالرزاق عفيفي -رحمهم الله جميعاً- أكثر من أربعين سنة. كان الشيخ - غفر الله له - ورعاً زاهداً، يظهر ذلك في لباسه وكلامه ومظهره، لا يتصنع الوقار، ولا يتلمس رضا الناس، كثير التلاوة لكتاب الله، عاتبني مرة أنه لم يجد في سيارتي مصحفاً حين ركب معي لإلقاء محاضرة خارج الرياض. قلَّ ما دخلتُ عليه في مكتبه إلا والمصحف أمامه يقرأ فيه. كان شديداً على أصحاب المحدثات والأقوال البعيدة لما أخرج أحدهم كتاباً في أحكام الحج قال الشيخ في إحدى محاضراته: هذا ذوّب الحج.. وأسقط الجزاءات.. كان الشيخ - رضي الله عنه - حذراً محتاطاً لذمته ويظهر ذلك في أمور منها:
* قراءته للأسئلة التي ترد في المحاضرة فيقرأها بنفسه ويرد عليها وأحياناً كثيرة يتجاوز عن جملة الأسئلة.
* حرصه على عدم أن يسجل عنه شيء لا في درس ولا في غيره.
مرة جاء شاب يسأل الشيخ عن مسألة في وقف لهم، فقال الشيخ: تعال بالأوراق لأقرأها ثم تعال بعد مدة، فقال الشاب: أجبني سؤالي وإن شاء الله آتي بالأوراق، قال الشيخ: تعال بالأوراق وما يكون إلا خير، والشاب مصرُّ على أن يطرح سؤاله، فقال الشيخ: أنت جئت تسأل لتبرأ ذمتك؟ قال الشاب: إي والله، فقال الشيخ: وأنا أريد براءة ذمتي، فخرج الشاب وهو يضحك.
زرت الشيخ قبل وفاته بأسبوعين أو ثلاثة، فلما رآني قال: يخرج الحي من الميت، فقلت له أبشر يا شيخنا بالأجر من الله، فربنا كريم سبحانه، ومحبة الناس لكم دليل على خير، وكان الشيخ - رحمه الله - طلب مني نسخة من رسالتي الدكتوراه، وللأسف ذهب الشيخ وبقيت حسرة في قلبي، حيث لم أضعها بين يدي الشيخ رحمه الله.
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء