Al Jazirah NewsPaper Sunday  06/06/2010 G Issue 13765
الأحد 23 جمادىالآخرة 1431   العدد  13765
 
شهداء الحرية.. فوق أسطول الحرية..؟
د. عبد الله مناع

 

كنت على يقين من حدوث ما حدث لسفن «أسطول الحرية» الإنساني فجر يوم الاثنين الماضي (31 مايو 2010م) في عرض المياه الدولية بين «قبرص» و»شاطئ غزة»، وقبل وصولها إلى المياه الإقليمية الفلسطينية.. على يد..

... «الكوماندوز» الإسرائيليين من ترويع واجتياح وتقتيل وإصابات انتهى ببعض أصحابها إلى غرف العناية المركزة وهم بين الموت والحياة، بل وحمدت الله الذي لا يحمد على مكروه سواه.. بأن عدد القتلى بين أولئك الأحرار الشرفاء لم يزد عن عشرين قتيلاً، وأن عدد الجرحى منهم لم يزد عن ستين جريحاً، فقد كان يمكن أن يتضاعف عدد القتلى، وعدد الجرحى إلى ما لا أدريه، وما لا يدريه أحد من أرقام، قد لا تخطر ببال أحد.. خاصة لو أن قادة هؤلاء «الكوماندوز» أمروهم بإغراق سفينة أو سفينتين من سفن الأسطول الست أو السبع ردعاً لأمثالهم (بالمنطق الإسرائيلي)، لكان تحول معها البحر «الأبيض».. إلى بحر من الضحايا والأشلاء.. ولكن «الله سلَّم»، فقد كان معهم.. يؤيدهم ويساندهم كما قال المطران الطليق «كابوتجي هيلاريون»... والشيخ الأسير رائد صلاح، اللذان كانا معاً على أحد سفن الأسطول الست أو السبع.

إن يقيني هذا.. لا أستمده من «عرافة» لا أدّعيها، ولكنني أستمده فقط من متابعتي الطويلة واللصيقة للصراع العربي الإسرائيلي عبر أحقابه طوال الخمسين عاماً الماضية، والمنعطفات الكبرى التي عبر بها في أعوام 67م, 79م، و91م، و93م.. ف (2002م)، عندما قدم العرب «مبادرتهم السلمية» الكبرى في بيروت.. وهم واثقون بأن «إسرائيل» ستتلقفها ب «الحمد» و»الشكر» الجزيلين، إلا أنها فاجأتهم ب «غموض» موقفها من «المبادرة» بداية.. فرفضها نهاية إلا بتعديلات إسرائيلية تقوم على: الاعتراف بضم المستوطنات الإسرائيلية الكبرى في الضفة الغربية لإسرائيل، والتنازل عن حق العودة للاجئين، وبالقدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل، ثم جاء التراجع العربي المخجل والمضحك.. عن مقررات «قمة سرت» الليبية, التي عقدت في شهر مارس الماضي.. والتي قالت بأن لا مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل ما لم يتم إيقاف بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، ومع ذلك ذهب الفلسطينيون إليها.. بينما تقرع آذانهم أصوات «شواكيش» البناء في المستوطنات الجديدة..!!

ورحم الله الماضي.. ووقفات العرب السياسية والعسكرية فيه!؟

لقد كانت آخر وقفة عسكرية للعرب في الصراع مع إسرائيل، لم يعد يذكرها نصف جيل اليوم.. هي التي شهدتها أيام رمضان/ أكتوبر 1973م، ثم أخذ العرب بعدها في النزول تدريجياً، وخطوة بعد خطوة في سلم حقوقهم «المشروعة».. حتى غدت مشاريع ورسومات تحويل المسجد الأقصى إلى أراض بيضاء ليقام عليها الهيكل، يجري تناقلها في الصحف والمجلات وفوق شبكات الإنترنت.. دون أن تجد موقفاً عربياً أو إسلامياً مشتركاً يتصدى لها..!

إن هذا الهوان العربي والإسلامي الذي بلغناه.. هو الذي عاظم من الغرور الإسرائيلي، وجعل حكومة «نتنياهو» تتباهى بقدراتها العسكرية والسياسية وكلمتها التي لا ترد.. لتُقدم على هذه الجريمة الدولية الشنعاء تجاه «أسطول الحرية» وبكل هذه الجرأة والقحة، فتقتل من تقتل، وتصيب من تصيب، ثم تضع الجميع رهن الأسر والاعتقال.. هم وسفنهم التي جاءوا بها دون أن يرف لها رمش..!!

ولكن وللحق.. فقد دعَّم هذا الهوان العربي، والشعور المتعاظم به عند حكومة «نتنياهو»: غروراً وتعالياً وبغير حدود.. «الانحياز الأمريكي» الدائم ل»إسرائيل» ظالمة أو مظلومة، بكل تغوله في الاستخفاف بالآخرين وحقوقهم منذ عهد «هاري ترومان» إلى عهد «جورج بوش الابن».. قديماً، وحديثاً.. هذا «الضعف الأمريكي» تجاه إسرائيل.. الذي فاجأ الجميع: عرباً وغير عرب!!

فبعد أن وقف الرئيس الأمريكي أوباما وقفته العادلة والشجاعة من «الاحتلال» الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.. في خطابه الشهير بجامعة القاهرة في شهر يونيه من العام الماضي، وبعد أن طلب من إسرائيل.. إيقاف الاستيطان مؤقتاً لأربعة أشهر حتى تعطي الفرصة لمفاوضات معقولة، فرفضته «علناً» وقبلت به «سراً»، وبعد «الاستقبال» البارد أو الغاضب الذي استقبل به «نتنياهو» في آخر لقاء جمع بينهما في شهر مارس الماضي في البيت الأبيض.. والذي طمأن شعوب العالم المحبة ل «السلام» عموماً، والعرب خصوصاً، وجعلهم يستعيدون آمالهم.. في التعشم خيراً بأن «التغيير» الذي وعد به الرئيس أوباما.. قد بدأ يكشف عن نفسه ولو بالتدريج، وأن على العالم - وشعوب الشرق الأوسط في مقدمته - أن يقدروا «ظروف» الرئيس كأول رئيس ديمقراطي أسود يحكم الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن.. وفجأة انقلب كل شيء رأساً على عقب، بعد الزيارة التي قام بها كبير موظفي البيت الأبيض «رام إيمانويل» - اليهودي المعروف - إلى القدس الغربية، ولقائه ب «نتنياهو».. حيث رتب معه أمر دعوته ثانية إلى البيت الأبيض يوم الثلاثاء الماضي (ولم تتم.. بسبب كارثة الاجتياح الإسرائيلي لأسطول الحرية)، لتعلن المصادر الإسرائيلية ب (أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما وجه دعوة رسمية بشكل مفاجئ لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لزيارة واشنطن لبحث آخر التطورات في العملية السلمية)!! وهي ترى بأن اللقاء بين «أوباما» و»نتنياهو».. إنما يأتي (لإصلاح ما بينهما فيما يبدو)!! بينما أضافت الصحافة الأمريكية ببراءة ! إلى أن اللقاء إنما يأتي لاحتواء (الانتقادات التي وجهها ل «أوباما» زعماء أمريكيون يهود في الكونجرس بسبب استقباله الفاتر لنتنياهو بعد الخلاف العلني حول سياساته الاستيطانية)، ولم يُسمع من البيت الأبيض شيء بعد ذلك.. غير المطالبة الديبلوماسية الناعمة ب «إجراء» تحقيق شفاف لمعرفة الأسباب التي أدت إلى الكارثة التي تعرض لها «أسطول الحرية»، مع التعازي الهاتفية التي قدمها «أوباما» ل «أردوغان» في الضحايا التسعة الأتراك..!

ولم يكن موقف أوروبا المعروف بدعمه للقضية الفلسطينية وتحمله النبيل والكريم لمعظم نفقات سلطتها.. ليخلو رغم نضجه الحضاري, وإدراكه السياسي لحقيقة المأساة التاريخية التي يعيشها الفلسطينيون تحت الاحتلال في أرضهم، إلا أنه لم يخلُ من «تبعية» لأمريكا تجنبه الصدام معها، وهو ما قد يفهم وربما يُقدر لأسبابه الاقتصادية.. فلم ينس الفرنسيون أزمة «أجبانهم» بعد اعتراضهم على الغزو الأمريكي للعراق أيام الرئيس جاك شيراك، ولكن الذي لا يفهم ولا يقدر.. هو هذا «النفاق» الذي تمارسه أوروبا.. بين الحين والآخر وفي اللحظات المفصلية لصالح إسرائيل، وكما حدث في لقاء وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في «كوبنهاجن».. عندما طرحت «السويد» فكرة إصدار بيان يعترف ب «القدس الشرقية» عاصمة للدولة الفلسطينية عند قيامها، فكان التردد والتشتت الأوروبي.!؟

إن «النفاق» في هذه أو في غيرها من القضايا المحسومة من قبل الشرعية الدولية إنما يصب في ميزان القوى الإسرائيلية وهو يأخذ بالتأكيد من رصيد العرب السياسي، الذي يعول عليه بداية ونهاية.

على أن «الضعف الأمريكي» تجاه إسرائيل، الذي جعل من قطها أسداً.. أو «النفاق» الأوروبي لها، لا يعول عليهم وحدهم في تبرير هذا «الهوان العربي»، الذي لابد وأن نعترف بأنه لا يزال.. وفي مقدمة أسبابه: الانتماءات، والمعسكرات، والتحالفات وشروطها المكتوبة وغير المكتوبة والمعلنة وغير المعلنة.. وكأننا مازلنا في زمن الحرب الباردة، أو زمن الصراع.. بين التقدمية والرجعية!!

الآن وقد انتهت - أو أوشكت على الانتهاء - وقائع هذه «الأزمة» البحرية الدموية المروعة التي لم يعرف التاريخ مثيلاً لها، والتي كان رئيس الوزراء التركي «رجب طيب أردوغان».. بحق نجمها الأول، ب»دعمه» بداية الانطلاقة ل «أسطول الحرية» صوب غزة بقيادة رئيس هيئة الإغاثة التركية «بولنت يلدرم»، والذي لم يكن يقل عنه إيماناً وحماسة.. فقد تعهد - وهو يتأهب للإبحار بسفينته إلى نقطة تجمع بقية السفن الخمس الأخرى المتفق عليها في المياه الدولية جنوب شرق جزيرة قبرص - بتجاوز الاستعدادات الإسرائيلية التي كان يجري إعدادها لمنع وصول سفن «أسطول الحرية» إلى شاطئ غزة.. قائلاً: «بأنها لن تثنيهم عن قرارهم بالدخول إلى غزة وفك الحصار عنها، وأن السفن ستدخل إلى غزة وليكن ما يكون»!!، ثم بوقفة أردوغان نهاية.. في البرلمان التركي مندداً ب «الهجوم الوقح وغير المسؤول الذي شنته إسرائيل، والذي ينتهك القانون ويدوس على كرامة الإنسان».. ومطالباً ب «عقاب من قام به».. ومحذراً من «اختبار صبر تركيا»، وهو يطالب إسرائيل ب «رفع الحصار غير الإنساني الذي تفرضه على قطاع غزة».

وبعيداً عن لعلعات الإذاعات العربية ب «الشجب» و»التنديد» و»الاستنكار».. وبعيداً عن اللغط السياسي الذي بدأ يدور حول تشكيل لجنة التحقيق مِن مَن؟ ومن أين..؟ أو خيار الأخذ بالإحالة إلى «المحكمة الجنائية الدولية» كما يطالب التحالف الدولي لملاحقة مجرمي الحرب في «باريس»، فإن هناك عشرين شهيداً.. وستين جريحاً، كانوا المثل والقدوة في فهمهم لمعنى «الحرية».. وكانوا العظماء في ارتياد هم طريقها الشاق والمحفوف بكل المخاطر، ليحققوها فوق أرض لم يعيشوا فوقها.. ولإخوة لهم في الإنسانية لم يروهم، ولم يعرفوهم من قبل، ولذلك.. فهم يستحقون الوقوف إلى جانبهم جميعاً.. من استشهد فيهم ومن بقي منهم عبر عمل مؤسسي أممي منظم، لا أظن أن أحداً أقدر على التصدي له وقيادته والوفاء به.. أكثر من «مجلس هيئة حقوق الإنسان» بمدينة جنيف عبر فتح حساب بأحد البنوك السويسرية المؤتمنة، يستطيع أن يصل إليه كل شرفاء وأحرار المعمورة.. ليسهموا فيه وبقدر ما يستطيعون إن كان ريالاً أو ديناراً.. فرنكاً أو «يورو»، ليتم تقديم حصيلة هذا الصندوق وفي أقرب وأقصر وقت.. لهؤلاء الثمانين شهيداً وجريحاً، الذين علمونا معنى الحرية.. مجدداً، ومعنى «الكرامة».. مجدداً، ومعنى «الإنسانية».. مجدداً. بل معنى «الأثرة».. التي نسيها العالم.

مع قبلة.. نرسلها دعاءً بالرحمة على شهداء الحرية، وأخرى نضعها.. على جباه المصابين منهم، وبكل الحياء.. منهم، وبكل الزهو والفخر بهم.

أما لجنة التحقيق.. إذا تشكلت، (وقبلت أو رفضت إسرائيل.. بقدومها إليها)، أو الإحالة إلى المحكمة الجنائية.. إذا انعقدت (برفض إسرائيل لمثول أي من جنودها أمامها.. فضلاً عن «نتنياهو» أو «باراك») فإنها في ظل هذا «الهوان العربي»، و»الضعف الأمريكي»، و»النفاق الأوروبي».. ستنتهي إلى تبرئة «الكوماندوز» الإسرائيليين، إما بحجة الدفاع عن النفس، أو عن قرار الحصار، أو عن الوطن.. الذي أراد «أسطول الحرية» أن ينتهك سيادته ب «المرور» من جواره!!



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد