من شابه أباه فما ظلم، هكذا وقر في الأذهان، مقولة ترددها الألسن، تستشهد بها في الحالات التي يتشابه فيها الأبناء مع آبائهم، إنها مسلّمة لا تحتاج إلى دليل أو برهان، والشواهد التي تصدق هذا وتؤكده أكثر من أن تعد، فكلنا يعرف الكثير من الحالات والمواقف التي شابه الأبناء آباءهم في تصرفاتهم وفي أقوالهم ومواقفهم.
يروى أن لحنظلة النميري ابناً عاقاً يقال له مرة، دار بينه وبين ابنه الحوار التالي:
قال حنظلة لولده مرة: إنك لمر يا مرة، قال مرة: أعجبتني حلاوتك يا حنظلة.
قال حنظلة: إنك خبيث كالسمك، قال مرة: أخبث مني من سماني.
قال حنظلة: كأنك لست من الناس، قال مرة: من شابه أباه فما ظلم.
قال حنظلة: ما أحوجك إلى أدب، قال مرة: الذي رباني أحوج مني.
قال حنظلة: عقمت أم ولدتك، قال مرة: إذا ولدت من مثلك.
قال حنظلة: كنت مشؤوما على إخوتك، دفنت وبقيت، قال مرة: أعجبتني كثرة عمومتي.
قال حنظلة: لا تزداد إلا خبثا، قال مرة لا يجنى من الشوك العنب.
اليوم يكثر الآباء من لوم الأبناء، ويكثرون التذمر من سلوكياتهم، فجل الآباء غير راض عن جل أفعال الأبناء، وغالبا ما يتحسرون على أيامهم الخوالي التي كانوا فيها على درجة عالية من الالتزام والاتزان والتوازن والتوافق مع الأنماط الحياتية التي عاشوها، تعايشوا معها ومع قيمها، ومع آدابها على الرغم من شظف العيش وقسوة ظروف الحياة، يتذكرون تلك الأيام ويترحمون عليها من هول ما يلحظونه هذه الأيام من تغيرات في أنماط الحياة، وتمرد في السلوكات، كثر تمرد الأبناء على كثير من قيم المجتمع وآدابه، فأضحى ما يعد منكرا قبيحا في الأمس، مسلما به مستساغا اليوم، صدمة شديدة بل صدمات يعيشها الآباء هذا الزمن، وكل صدمة ترقق ما قبلها، ليس هذا فحسب بل امتدت آثار الصدمات لتشمل البنات وهو أمر غير مألوف، بل لا يمكن تصوره، مهما كانت درجة سوء الحال وترديها.
وحقيقة الأمر أن طبيعة نمط حياة الأبناء في هذا الزمن، يتحمل مسؤولية تشكله الآباء، فهم الذين لعبوا دوراً رئيساً في صناعته، سواء بإرادتهم، أو بسبب غفلتهم وعدم مبالاتهم، فالابن ينشأ ويترعرع ويكون فكرا وسلوكا على ما يشاهده ويسمعه ويعوده عليه أبوه، ومن هذا المنطلق، الآباء هم الأحرى باللوم وليس الأبناء، الأبناء تتبلور أفكارهم، وتتشكل سلوكياتهم، وتتعزز أخلاقهم وقيمهم، وفق الأطر المعرفية والقيمية التي يربي الآباء أبناءهم عليها، أو تلك التي يرى الأبناء آباءهم عليها، يتبنونها وينهجون وفقها، وهي في جملتها - عند البعض - تعد أفكارا وممارسات غير سارة، ولا تنم عن إدراك للعواقب والمآلات التي أفرزت حالات النشاز التي يتألم اليوم منها الآباء أنفسهم، لأنها حال الأبناء اليوم تجاوز في انحرافه ما كان الآباء عليه.
يذكر أحد الأصدقاء أنه شاهد شابا في بداية عقده الثاني، أي في المرحل المتوسطة، شاهده يركب خلسة في حوالي الساعة الحادية عشر ليلا مع شباب أكبر منه سنا، في أواخر المرحلة الثانوية، كانت أشكالهم مريبة منكرة، وملامحهم كريهة لا توحي بخير، شعورهم كثة كثيفة، وصدورهم عارية معنى ومبنى من الحياء والمروءة، وفي يد كل واحد منهم سيجارة، ركب الشاب الصغير معهم بعد أن تلفت يمنة ويسرة، خشية أن يراه أحد من الأهل أو الجيران، وفي حوالي الساعة الثانية صباحا عاد الشاب إلى البيت كريه الشكل والرائحة، عاد وهو مطمئن أن لا أحد من الأهل سوف يلحظ سوء حاله وأفعاله.
هذا الشاب ضحية إهمال الأب وغفلته، فعلى الآباء أن يتقوا الله، ويحذروا من قول أو فعل يخالف الدين أو القيم أو الأخلاق أو الآداب أمام أبنائهم، لأن الأبناء سيقلدونهم بل سيتفوقون عليهم، لهذا أليس الآباء هم الأحرى باللوم والإدانة؟