يلَذ لنا في أحايين سكنى الخيال؛ فنسافر مع الشمس، ونرتحل مع النجمة، ونسائل الغيمة والمطر، ونعايش العالم الافتراضي بنهم شعوريٍ ذي لون وطعم، وكنا نظن الخيال وهما، والحقيقة رقما، وبينهما برزخ لا يبغيان، حتى جاء زمنٌ محا الأزمنة؛ وصرنا نقص حكايات الأمس فتبدو وهما، ويجادلنا الأدنون ب: هل، وكيف، ومتى!
وإذا تجاوزنا التطور الثقافي الذي أحال (لعب الورق) و(ضرب الطبول) و(قيادة الدراجة) و(تعليم البنات) واقتناء التلفزيون والدش إلى فواصل خارج الأقواس؛ فإن ملامح أخرى في الصورة العتيقة ما تزال عصيةً على الفهم؛ لترتقي علائمُ استفهام متسائلةً عن مشهد الانفصال بين يومٍ وغده ولحظة وسابقتها.
كانت العروبة فرضا، والشعارات أرضا وعرضا، واللاءات الرافضة للصلح والاستسلام والمفاوضات الحد الفاصل بين الانتماء والارتماء؛ فعشنا وعشينا، وكنا نتطلع إلى العلو فإذا القاع هو القرار، وإذا الهزائم هي المسار، ويموت الأتراك عنا لنفرغ لستار أكاديمي وجلسات وناسة، ورعى الله (أردوغان).
وبعد تخرجه في الجامعة كان له موقف من الإعادة؛ فعزم أمره على الاعتذار عن وظيفة استشرافية مضمونة مدخلاً ومخرجاً، ولما لم يقبلوا موقفه لجأ إلى شفاعة إدبار، ووجد خيارات مفتوحة للوظائف كي يفكر ويقرر، ويختار واحدة ما يلبث أن يجد من يمنحه فرصة أجمل منها.
لم يكن الأمر متعلقا بكفاءة استثنائية؛ فجيلنا - وهو مازال داخل الخدمة لا خارج التاريخ - عاش التجربة في مواقع تأذن بالتنقل؛ في حين يبقى المؤهلون اليوم في صفوف الانتظار، ولا تفسير مقبولا لبطالة اليوم وفائض الأمس.
وكنا نتحلق حول (مائدة إفطار) الطنطاوي حولياً، و(نور وهداية) أسبوعياً؛ فكفتنا فتاواه أو كادت، وبتنا اليوم أمام عشرات البرامج ومئات المفتين ميداناً لتناقلات الساخرين مع تغييب القضايا المتصلة بكرامة الأمة وثرواتها ومستقبل أجيالها.
كذا يصنع الزمن؛ فيحيل الصلبَ لينا، والماء بخارا، ويتبدد التشدد، ويزدحم الفراغ، ويبقى الجدل مفتوحاً لمنطقٍ بلا نطق، وعناوين دون صدق، وناس تبحث عما يقيم أودَها غير عابئة بمحتل عابر أو مقيم؛ ترى دون أعين، وتسمع من غير استيعاب؛ فالقرار ليس لها، ويكفيها أن تنفعل قليلاً ثم تخلد إلى المنام حالمة بما يغير الحال.
أصبحت الجماهير تتفرج على الأحداث بتبرم حيناً، وغضب حيناً، وتندر حيناً، وملل حيناً، وعدم مبالاة حيناً، وكلها طاقات سلبية تحيل القادر إلى عاثر، وقد أيقنا ألا مكان للرايات البيضاء في الأمة الحية.
وسواء أكنا تخطينا عقود التيه وأصلحنا ساعة الحائط الصدئة أم أننا ما نزال وفق توقيتها فإن الغد سيشهد تغييراً أكبر، وسيأتي من يسخر من هدير الكلمات نتفنن فيها لإضاعة الزمن كما الأرض، والتنبؤ كما التخطيط؛ فاللعب في الوقت الضائع يعني أعباءً نفسية وهدراً للفرص.
هذه أمثلة على مدارات (الهوية) و(المعيشة) و(التحولات) و(المواقف) معلنة افتقاد (الرؤية) بوصفها مظلة الحراك العازم على الحياة، القادر على الانعتاق من الوصاية والعشوائية والتبعية.
السفح للمتعبين.
Ibrturkia@gmail.com