ما زلت أذكر تحذيّراً - لوزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ من ظاهرة «فوضى الفتاوى»، تحسباً من الوصول إلى مرحلة تحريم الحلال وتحليل الحرام، الأمر الذي ُينذر بكارثة دينية واجتماعية. معتبراً الوضع القائم حالياً، بأنه: «أصبح مختلطاً أعظم الاختلاط»، محملاً المسؤولية لمن يتصدى للفتوى، ولمن يستفته من الناس.
الرصد الموضوعي، واعتماد التحليل البعيد عن التعصب للعقد الأخير، أي: بعد وفاة - سماحة الشيخ - عبد العزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله -، يرى كماً هائلاً من التخبط العشوائي لتلك الفتاوى، والتي نرى أنها غريبة، هدفها إثارة الزوبعة في كل الأرجاء، بعد أن تحول المفتي إلى ساحة مفتوحة لاجتهاداته عبر وسائل الإعلام، وإنتاج برامج دينية؛ من أجل إضفاء شيء من المصداقية عليها، وفتحت الساحة على مصراعيها لأنصاف العلماء، مما أدى إلى انتشار الفتاوى الشاذة والغريبة. وأصبح الذوق العام غير منسجم مع طبيعة تلك الفتاوى؛ لإساءتها للإسلام.
هذه الفتاوى التي أطلقت في الآونة الأخيرة، عكست مفاهيم دينية غير صحيحة، وكشفت عن خلل منهجي بين التنظير والواقع، لاستخراج فتاوى غير منضبطة، مبتورة عن سياقها الأصلي، لم تراع فيها كليات الشريعة ولا جزئياتها، ولم تراع مقصد السائل ونوعية المستفتي، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن عدم قدرة المفتي على فهم مناطات الأدلة الصحيحة، وعزلها عن مناسباتها الحكمية، أو عن سياقاتها التي لا يمكن فهمها بعيدا عنها، كانت كفيلة ألا يستحق أن يتداولها العقل، وأن يلفظها الناس، لمصادمتها الذوق العام والفضيلة والفطرة.
فوجئت وأنا أقرأ بعض الفتاوى - قبل أيام -، لأناس ليس لهم في مقام الفتوى حظ ولا نصيب، فخاضوا في نوازل عامة، وقضايا حاسمة. وتقولوا على الله بلا حجة ولا برهان، متتبعين الأقوال الشاذة، إما استدلال بأحاديث ضعيفة، أو منسوخة، أو بأحاديث خارج محل نزاع. فرأينا فتاوى متناقضة بين رجالات المنظومة الفقهية الواحدة.
للأسف، لم تتخذ أي خطوات لدينا للسيطرة على فوضى الفتاوى. وفي ظني، أن إصدار نظام يكبح ظاهرة «فوضى الفتاوى» مطلب مهم، لنرقى إلى منهجية اجتهادية منضبطة، بعد أن أصبحت تلك الفتاوى مرتعاً خصباً لكل من هب ودب. ولذا، فإن من المهم في حق المفتي، إرجاع الفتوى إلى نظائرها من أدلة الكتاب والسنة، وعبر أدوات النظر إلى مقاصد الشريعة، ومن ثم تنزيل دلالات النصوص على واقع المسألة. وهو ما يؤكده الأمام الشاطبي - رحمه الله - حين وصف العالم الرباني، بأنه: «هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها، أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة، أو عدم التفاتها. فهو يحمل كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف».
بربكم ! أليست هذه الفتاوى دعاوى فساد، لا تقل خطورة عن قضايا الفساد الأخرى، تهدد الأمن الاجتماعي، لأناس يعيشون عبثية في المنهج، وخللاً في التفكير - ولا سيما - وأن الفتوى توقيع عن رب العالمين، تحتاج إلى من يفتي بعلم يعصمه من الجهل، وورع يعصمه من الهوى، وباعتدال يعصمه من الغلو. وهذا - الإمام - مالك - رحمه الله - يقول، حين تحدث عن صفة الفتوى: «لا ينبغي للعالم أن يفتي حتى يراه الناس أهلا لذلك، ويرى هو نفسه أهلا لذلك، وما أفتيت حتى شهد لي سبعون».
drsasq@gmail.com