يبدو أن قيام الحضارات وتكوُّن الدول في بداياتها يشبهان البالون المفرغ من الهواء؛ فتبدأ تلك الحضارة أو تلك الدولة في النفخ في هذا البالون، وهنا فقد تتحول الحضارة
إلى إمبراطورية والدولة إلى قوة عظمى، ومع الاستمرار في هذا النفخ يصبح الاستبداد والسيطرة ديدنهما، ولكن مع الاستمرار في هذا النفخ إلى ما لا نهاية لمدة طويلة يصل هذا البالون إلى مرحلة لا يستوعب ما يُنفخ فيه؛ فيحكم عليه الزمن بالانفجار.. فعلى سبيل المثال الحضارة الفارسية والحضارة الرومانية عندما تحولتا إلى إمبراطوريتين انفجرتا وتلاشتا واندثرتا، وفي عصرنا الحاضر عندما تحولت الدولة الروسية إلى إمبراطورية الاتحاد السوفييتي، وزاد النفخ فيها، انفجرت من الداخل.
إنَّ تلاشي الحضارات وتفتت الدول يسيران بحركة بطيئة مع حركة الزمن، ومع هذا فالقارئ للتاريخ والدارس لتكوُّن الدول والحضارات وكيفية نشوئها واندثارها يرى ملامح وكأنها ضوء خافت ضعيف ينبعث من نجم بعيد يشير إلى بداية نكوص وتراجع تلك الإمبراطورية أو تفتت تلك الدولة.
لقد تحولت الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين إلى إمبراطورية، واشتركت في الحربين العالميتين، واحتلت دولا، وجيوشها وقواعدها متمركزة في بعض الدول، وبارجاتها البحرية تجوب معظم البحار والمحيطات.
نحن الآن في منتصف نهاية العقد الأول للقرن الواحد والعشرين، ومنذ بداية هذا العقد ظهرت إشارات وأضواء خافتة تشير إلى بداية التصدع والانكماش في الإمبراطورية الأمريكية؛ فقد زادت الرقعة التوسعية عليها، وكثرت التزاماتها العسكرية، وزاد عدد قتلاها، وبدأ الانهيار المالي والاقتصادي عندها، حتى أنها أصبحت تستنجد بدول أقل منها في القوة العسكرية والمادية والتكنولوجية، وهذا مصحوب ببروز دول أخرى قوية اقتصادية وعلمياً وعسكرياً، وهذه إشارات إلى بداية انحسار الإمبراطورية الأمريكية في العالم، الذي ربما لا نراه في جيلنا الحاضر.
والمثال الآخر هو دولة إسرائيل؛ فمنذ إنشائها في سنة 1948م من قِبل الغرب والمعونات العسكرية والمادية والتكنولوجية تنصب عليها من كل الاتجاهات، حتى أنها وصلت في نهاية القرن العشرين إلى حد التخمة في القوة العسكرية والنووية؛ فأصابها الغرور؛ فأصبحت تغير على هذا وتقتل ذاك، وتستحل هذه الأرض وتدمر تلك؛ فصارت لا تحترم القوانين الدولية، ولا المعاهدات الأممية، وهي في أفعالها غير المشروعة مطمئنة إلى تأييد صانعيها في الغرب، وخصوصاً أمريكا، ولكن في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، والمصحوب بانحسار الدور الأمريكي، بدأ أصحابها في الغرب، وعلى رأسهم أمريكا، في التململ من تصرفاتها الهوجاء؛ فبدؤوا في انتقادها والبحث لها عن مخرج بالسلام مع أصحاب الأرض الأصليين والدول المجاورة لها؛ لأنها صارت عبئاً ثقيلاً عليهم في علاقاتهم مع الدول المجاورة لها، ناهيك عن بداية صحوة بعض الدول العربية المجاورة لها والبعيدة عنها في سعيها لامتلاك أسباب القوة العلمية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، وهذه أمور تشير إلى إمكانية الوصول إلى مرحلة من توازن القوى وإلى بداية الخيار للدولة العبرية في أن تعيش في أمن وأمان مع جيرانها بعد أن ترد كل ما سلبته من أصحاب الأرض الأصليين والدول المجاورة لها، أو أن يكون مصيرها إلى الانفجار من الداخل؛ لأن هذا هو الحتمية التاريخية الزمنية.