اسمحوا لي بالإفصاح عن أهوائي بكل صراحة: أنا لم أحلم بالسفر إلى الفضاء في طفولتي، بل كنت أعتبر هذا الأمر من المسلمات. ذلك أن والدي كان عالم صواريخ (حقيقي)، وكنت أحسب أنه كما أصبح السفر بالطائرات أمراً شائعاً معتاداً أثناء حياته فإن السفر إلى الفضاء لابد وأن يصبح شائعاً على مدى حياتي. لقد هبط الناس على القمر لأول مرة حين كنت مراهقة، وبعد ذلك تحولت إلى اهتمامات أخرى الصحافة، والإنترنت، والشركات الناشئة. ولكن بعد مرور عقود من الزمن انتبهت إلى أن السفر إلى الفضاء ما يزال مقتصراً على مجموعة صغيرة من رواد الفضاء، ومجموعة أخرى ضئيلة من سياح الفضاء الأثرياء ستة حتى وقتنا هذا. وكانت صناعة الفضاء مقتصرة على قِلة من الحكومات، بالإضافة إلى عدد من كبار مقاولي الصناعة الذين فرضوا شكلاً من أشكال التبادل المنفعي على عملاء حكوماتهم.
ثم تأسست شركة سبيس أدفينشرز (Space Adventures)، وهي شركة خاصة تتولى تنظيم رحلات سياحية إلى الفضاء تحت إشراف روسكوزموس (وكالة الفضاء الاتحادية الروسية) في مقابل ما يزيد على 35 مليون دولار للرحلة الواحدة. ولقد استثمرت بعض أموالي في شركة سبيس أدفينشرز، وأيضاً في شركة إكسكور ايروسبيس (XCOR Aerospace)، وهي شركة تعمل في مجال صناعة الصواريخ. وكما هي الحال مع شبكة الإنترنت، فبوسعي الآن أن أرى وميض الطاقة التي تنتج عن غزو الشركات التجارية الناشئة لسوق تهيمن عليها منظمات ضخمة وراسخة. كنت أريد أن أعرف المزيد عن السفر إلى الفضاء (وليس عن الشركات الناشئة!) وتصورت أن ستة أشهر من التدريب الفضائي مع روسكوزموس، بتنظيم من شركة سبيس أدفينشرز كافية لتعميدي بالكامل في هذه الصناعة.وبعد عودتي أتيحت لي فرصة الانضمام إلى المجلس الاستشاري لوكالة ناسا للفضاء، بوصفي رئيسة للجنة التكنولوجيا والإبداع التابعة لها. ومؤخراً طرأت تغيرات كبيرة على المجلس، حيث تم خفض عضويته من خمسين عضواً إلى عشرة أعضاء، وتم توضيح الدور المطلوب من كل عضو في المجلس. بيد أن السلطة الفعلية التي يتمتع بها المجلس محدودة: فوكالة ناسا تتلقى الأوامر من كونجرس الولايات المتحدة الذي يتولى تمويلها. ولا يمكننا سوى تقديم المشورة فيما يتصل بالتمويل والقرارات التي يتخذها الكونجرس في هذا الشأن.
وهذا التغيير يعكس تغييراً في وكالة ناسا ذاتها، في ظل المدير الإداري الجديد تشارلي بولدن، الذي عينه الرئيس باراك أوباما. والواقع أنها فرصة كبيرة لوكالة ناسا، وأيضاً لاستكشاف الفضاء والعلوم المرتبطة به في الإجمال. ولقد اقترح أوباما ميزانية جديدة لوكالة ناسا توجه تركيزها على أهداف أبعد أمداً، وتضيف ستة مليارات أخرى من الدولارات على مدى الأعوام الخمسة المقبلة (في وقت حيث تواجه كافة الوكالات الأخرى تقريباً خفضاً في ميزانياتها). ولكن بأي شيء تستفيد ناسا إذن من ميزانيتها الجديدة؟ وما الصلة التي تربط هذه الميزانية بصناعات وحكومات أخرى؟
إن الميزانية الجديدة تفيد في أمرين. فهي أولاً تعترف بتأخر ما يطلق عليه مشروع الكوكبة (Constellation) عن جدوله الزمني وتجاوزه لميزانيته وافتقاره إلى الطموح، وهو المشروع الذي يركز على العودة إلى القمر. لذا فقد قررت الميزانية الجديدة إلغاء مشروع الكوكبة رغم أن العديد من المشاريع النوعية الفرعية المرتبطة به والعاملين المشاركين في المشروع سوف يستمرون. وتهدف الميزانية الجديدة إلى توظيف الأموال والموارد المحررة في برنامج جديد لم يحدد بعد للسفر إلى ما هو أبعد من القمر - الكويكبات، أو ما يطلق عليه «الأجسام القريبة من الأرض»، ثم المريخ في نهاية المطاف.بيد أن أوباما لم يحدد الأهداف الجديدة بوضوح، حيث ترك لوكالة ناسا تحديدها وهو موقف معقول ولائق، ولكنه للأسف يشكل خطأً سياسياً. فهي ليست بالفكرة الطيبة على الإطلاق إحلال الغموض في محل شيء ما لم يثبت نجاحه. وبطبيعة الحال سارع الساسة وجماعات الضغط الذين لا يهتمون إلا بمناصبهم في هذا العام والأصوات التي قد يحصلون عليها في العام القادم إلى انتقاد هذا الافتقار إلى الخطة.
إن وكالة ناسا تشكل منظمة نموذجية ضخمة. وأغلب الأفراد المنتمين إليها يرحبون ببيئة عمل أكثر ميلاً إلى المغامرة، ولكنهم أنهِكوا بعد سنوات من الانتقاد، والقيود، والتنظيمات، وخفض الموازنات على نحو متعسف. والواقع أن وكالة ناسا تقاوم التغيير كمنظومة، ولكنها من الداخل تحتوي على الآلاف من الأشخاص المتلهفين إلى التجريب والتعلم من النجاحات والإخفاقات على السواء. وهم يريدون التحرر من أحد أكبر التحديات، ويريدون خوض المجازفة مع التكنولوجيا وليس مع الناس.
وإذا نظرنا حولنا فسوف نجد العديد من المنظمات من هذا القبيل، تنتظر من يحررها، ويتوق العاملون بها إلى التنفس بحرية.
(*) رئيسة شركة EDventure القابضة.
خاص (الجزيرة)