لا أستطيع أن أقاوم الرغبة في التوقف أمام بعض الموضوعات والأفكار الشائقة التي حفل بها عدد (الجزيرة) الصادر يوم الأربعاء الموافق 29-4-1431هـ. وهذه الموضوعات الثلاثة والأفكار التي تحملها يجب ألا نمر عليها مر الكرام:
|
الموضوع الأول: تطوير فكرة الحوار الوطني:
|
في زاويته (مدائن) اقترح الدكتور عبدالعزيز الجارالله تطوير فكرة مركز الحوار الوطني إلى مركز وطني للحوار والدراسات بهيئة مستقلة إدارياً ومهنياً ومتفرغة لهذا الشأن، بحيث يقوم بتزويد الجهات الحكومية بالدراسات عن القضايا التي تهم كل قطاع وينصب دوره على الدراسة والتحليل والقراءات المعمقة في الجانب الاجتماعي والشأن الداخلي والرؤية المستقبلية وغير ذلك مما لا تغطيه مؤسسات البحث الأخرى. و أرى أن هذا اقتراح صائب جاء في أوانه، بعد أن أسس المركز لثقافة الحوار خلال السنوات الماضية و تكون لديه خبرة واسعة وتراكم معرفي وقواعد معلومات تنبئ بالكثير عن قضايانا الوطنية والاجتماعية والفكرية. ومع أن هناك كتباً قيمة ألفها علماء مفكرون عن بعض قضايانا تلك إلا أن الفراغ في هذا المجال لا يزال كبيراً، ويصعب ملؤه بدون وجود هذا المركز الذي تموله وتسانده القيادة العليا في الدولة، وقد يستطيع أن يحافظ على استقلاليته وحياديته العلمية، ويصبح ذراعاً فكرية لمجلس الشورى يمده بالمعلومات ونتائج الأبحاث التي يحتاج لها المجلس فيما يدرسه من القضايا. وهذه المهمة الجديدة التي اقترحها الدكتور الجارالله للمركز لا تغير شيئاً من دوره كمركز للحوار الوطني. ذلك أن الحوار لذاته هو الوسط الذي يهيئ لتقابل الآراء المتعارضة والتيارات الفكرية المختلفة وتزال فيه الحواجز النفسية والمواقف المتعصبة والتشنجية ويتعزز به الانتماء الوطني، إلا أنه كما نعلم من الطرق المتبعة في مراكز الأبحاث وبيوت الخبرة المعتبرة فإن المداولات الحوارية وإن تعددت هي جزء من عناصر الموضوع المراد بحثه ويخضع مع بقية الأجزاء للتحليل والدراسة قبل الوصول إلى النتائج والتوصيات. ولا يضير الجامعات أو غيرها من المؤسسات الأكاديمية أن يوجد بجانبها مراكز للدراسات والبحوث بل إن هذا التنوع في بيئة البحث يضفي شيئاً كثيراً من الحيوية وروح الإبداع على هذه البيئة. ومن الواجب القول أن القلب ينقبض ويحزن حين نشاهد في هيئات عزيزة مكرمة مثل مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني أو اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري أن التراكم المعرفي ينهدّ وقواعد المعلومات تغبرّ والخبرات تضيع حين ينفضّ سامر القوم بعد كل مهمة ولا يبقى إلا الرماد، في حين أن تشكيلها كمراكز للدراسات كفيل بالمحافظة على الخبرة المتراكمة وتنميتها.
|
ولم أر في عيوب الناس عيباً |
كنقص القادرين على التمام. |
الموضوع الثاني: استقلال مكاتب التربية والتعليم بالقصيم ومفهوم الإدارة المحلية.
|
المقصود كما يفهم من التقرير الإخباري المنشور في الجريدة أن يكون لكل مكتب من المكاتب التابعة لمديرية التربية والتعليم في القصيم نوع من الاستقلال المالي والإداري من خلال إيجاد مخصص مالي مستقل له نظامه وضوابطه وآليته في الصرف والتوزيع داخل نطاق كل مكتب (مع ما يتطلبه ذلك من صلاحيات مالية وإدارية).
|
هذه التجربة - كما أفهمها - خطوة رائدة في التوجه نحو تطبيق أسلوب الإدارة المحلية، وهي علامة النضج الإداري على مستوى المجتمع المحلي أو مجتمع المحافظة. لقد أصبحت اللامركزية في التنفيذ مطلباً حضارياً أو تنموياً يبرره التوسع في الخدمات وعي المجتمع وتراكم الخبرة الإدارية على المستوى المحلي - هذا من ناحية - ومن ناحية أخرى قصور البيروقراطية المركزية عن التعامل المباشر ومن ثم التفاعل مع أفراد المجتمع المحلي الذين يتلقون الخدمات والذين يلمسون النقص في الخدمات ويشعرون بالقصور في أدائها مباشرة وعلى الفور، لكن الإدارة المركزية لا ترى ذلك إلا بعد حين، ولا تستجيب - إن استطاعت - إلا بعد حين، وحبل القرار طويل. لقد تغيرت الأمور في المحافظات والمدن المتوسطة كثيراً عن ذي قبل. في بعضها يوجد جامعات وكثير منها يوجد به كليات ومستشفيات وبلديات وفروع للبنوك ومصالح أخرى. فلم تعد المحافظات مجرد أطراف للمناطق لا حول لها ولا طول، بل هي جزء فاعل له وزنه ودوره في التنمية، بعد أن تبنت الدولة الإستراتيجية العمرانية الوطنية ووضعت تنمية المناطق هدفاً من أهداف الخطة الوطنية للتنمية. ذلك كله يتطلب إدارات محلية قادرة على صنع القرار في نطاق دائرة عملها، وقدرتها تعتمد على ما تعطى من موارد وصلاحيات وكفاءات قيادية. وليس للامركزية التنفيذية درجة واحدة بل درجات. أعلاها نقل السلطة بالكامل من بعض قطاعات الحكومة المركزية إلى حكم محلي يدير فيه المحافظ جميع القطاعات الخدمية والأمنية. وهذا النوع لا يناسب أوضاعنا إدارياً أو مالياً أو اجتماعياً، خاصة أن إيرادات الدولة مركزية ولا توجد ضرائب محلية. أما الدرجة الأنسب من اللامركزية فهي الإدارة المحلية القطاعية التي يمارسها قطاع معين مثل قطاع التعليم أو الصحة أو البلديات. ولكي تكون الإدارة المحلية فاعلة وصانعة قرار يجب أن تكتسب صفة الإدارة الذاتية التي تتصرف في حدود اعتمادات مخصصة وصلاحيات نافذة لا ترجع فيها للإدارة المركزية إلا في الحد الأدنى. وقد كانت البلديات سباقة إلى تطبيق منهج الإدارة المحلية بنجاح تغبطها عليه القطاعات الحكومية الأخرى. ومن أجل تكريس هذا المنهج وتطويره فإن بلدية المجمعة قامت بتنظيم لقاء في 21-4-1431هـ ضم جميع رؤساء البلديات في منطقة الرياض وعدداً من مسؤولين قياديين آخرين ضمن إطار اللقاءات السنوية التي ترتبها أمانة منطقة الرياض. وأفسح هذا اللقاء المجال لتبادل الرؤى والتجارب في منهج الإدارة المحلية. ولوزارة الصحة أيضاً تجربة في أسلوب الإدارة المحلية مارستها من خلال تطبيق نظام القطاع الصحي Health District System في بعض المناطق قبل أكثر من عشرين عاماً، وكان القطاع يتكون من مستشفى عام ومجموعة من المراكز والخدمات الصحية المرتبطة به، واستمرت هذه التجربة بنتائج جيدة ردحاً من الزمن إلى أن ظهر في الأفق قبل بضع سنوات اتجاه الفصل بين المراكز الصحية (مراكز طب الأسرة) وبين المستشفيات من ناحية الإشراف الإداري على مستوى المحافظة، إلا أن فرصة العودة إلى هذا النظام قائمة عند تطبيق المشروع الوطني للرعاية الصحية المتكاملة والشاملة الذي تتبناه وزارة الصحة في الوقت الحاضر، ليس فقط على مستوى المنطقة، بل كذلك على مستوى المحافظة. إذ لا يمكن تحقيق التكامل بين مكونات الرعاية الصحية في المحافظة دون وجود رابطة تنظيمية بين المستشفى والمراكز الصحية والوحدات الصحية الأخرى. وبدون هذا التكامل فإن الإدارة المحلية لا تغني شيئاً.
|
(يتبع) |
|