في مرحلة الدراسة الجامعية مثلت (دارُ الكتب الوطنيةُ) و(مكتبة معهد الإدارة العامة) موئلين لنا عصرَ كل يوم ومساءه؛ فلم نكن -طلاب جامعة الإمام قبل ثلث قرن- نجتاز السنة الدراسية إلا بعد تقديم بحث علمي ذي منهجية صارمة يلتزم بها الطالب الجاد، وكانت حافلات خط البلدة «بنصف ريال» وسيطنا: ذهابا وجَيْئة؛ إذ لا نمتلك سيارات خاصة كما أبنائنا الذين لا يكادون يدلفون إلى المرحلة الثانوية حتى يصبحوا ماهرين في التفحيط ومتصدرين في الفواجع، وسوف يحتالون على ألف «ساهر» وساهر؛ ليدفع الثمن ذوو الدخل المحدود المتزايدون على حساب الطبقة الوسطى الضامنة لاستقرار المجتمع وتوازنه.
لم تكن لدينا مكاتبُ للخدمات الجاهزة التي تبحث بالأصالة وتكتب بالنيابة، ولم يكفها طلبة الجامعات؛ فامتد إضلالُها لباحثي الماجستير والدكتوراه، وأصبحت تمارس تجارة علنية يقوم بها سماسرة محليون يتفق بعضهم مع مكاتب خارجية لكتابة الخطة وإعداد البحث الذي يريده الطالب وفق المراجع التي يختارها مع تسليم نهائي في بضعة أشهر مقابل ما يعادل ثلاثة آلاف ريال للماجستير وأكثر منها للدكتوراه.
الناتج من هنا شهادة «بطريقة الاستئجار» معتمدةٌ مصدقةٌ معترفٌ بها يحملها الآلاف؛ فيتأهلون لكرسي أكاديمي ومركز وظيفي، وفي الولايات المتحدة والدول الأوربية شبيه بهذه الخدمات للطلاب الأجانب؛ فهناك رسائل تدور بين الطلبة، ولا يكلف الأمر واحدهم غير استنساخها مع تغيير الاسم والإهداء.
جانب يرسم الهُزال العلمي الذي امتد لحاملي الشهادات العليا بعدما فاض التعليم العام بكوارث الدروس الخصوصية والملخصات والتلميح وربما التصريح بأسئلة الاختبارات، وأي غد ننتظره إذا ابتدأ التزوير من مراحل الدراسة الأولى ؟! ونسبت فتوى إلى الشيخ محمد العثيمين -عليه رحمة الله- تفيد أن ما يترتب على نجاح الغاش من شهادةٍ ووظيفةٍ باطلٌ ومالُها الناتجُ عنها حرام ، وليت هذه الفتوى -لو صحت- تدرس من الصف الأول الابتدائي.
العلم هو المحك وليس المدرسةَ أو الجامعة، ولدينا قوائم جامعات معترفٍ بها، وهي عجفاء، وربما زُكيت مؤسسات تعليمية أجنبية لوجود ذوي مواقع من متخرجيها، وفي أميركا - على سبيل المثال - جامعات قوية تعامل الطلبة الأجانب وفق جدول خاص بهم «لا يدخله إلا هم»، والمحصلة اجتياز وربما امتياز؛ ما يجعلنا بحاجة لتبني نظام «الاختبار الشامل» بعد التخرج، متضمنا إعداد بحوث «آنية» قصيرة بلغة الجامعة التي حصل الطالب على شهادتها، وبإشراف جهة اعتماد عالمية مشهود لها، وإجبار حاملي الماجستير والدكتوراه على نشر بحوثهم التي تأهلوا على أساسها؛ فقد نقضي على الغلط كما اللغط.
تجاوز الزمن لجنة معادلات، وبتنا بحاجة لمؤسسات اعتماد أكاديمي عالمية وفق تصنيف معروف ومعايير دقيقة تخضع لها مدخلات ومخرجات التعليم العام والعالي مثلما هو متبع في أنظمة المدارس الدولية، وبدون هذا نكون كمن يقاضي من اختلس أذن الجمل ويتجاهل من سرق الجمل بما حمل.
تجارة العلم بوار.
Ibrturkia@gmail.com