الرياض - خاص بـ(الجزيرة)
الجهل والهوى هما أساس أي ضلال وقع فيه البشر، وإن المتتبع لتاريخ المجتمع المسلم في الحاضر والماضي يلحظ أن كل فتنة وقعت في الأمة أساسها الجهل واتباع الهوى، مما أدى إلى افتراق هذه الأمة، وكان من نتائج هذا الافتراق، وآثاره السيئة على الأمة مما جعل بعضهم يكفر البعض الآخر، الأمر الذي نتج عنه رفع السلاح واستحلال الدماء، كيف لنا أن نقضي على هذه الظاهرة وآثارها الخطيرة على وحدة الأمة الإسلامية، ومواجهة أصحاب الهوى من خلال شرع الله تعالى؟
هذه التساؤل تم طرحه على عدد من الدعاة، حيث أجمعوا على خطورة أصحاب الهوى والجهل على أمن المجتمع المسلم واستقراره نتيجة للأعمال والسلوكيات التي يرتكبونها نتيجة فكر منحرف، أو هوى ضال أدى بهم إلى انتهاك حرمات الناس، ودمائهم، وأموالهم، وممتلكات المجتمع الخاصة والعامة، وترويع الآمنين، من المسلمين والذميين ونحوهم.
سبب الضلال
فبداية يرى الشيخ أحمد بن عبدالكريم الخضير - عضو الدعوة والإرشاد بالرياض، أن الجهل لا ينفع معه قليل العمل ولا كثيرة، وكم من مقيم على ضريح يدعو صاحبه ويبكي بخشوع وخضوع قد أظمأ نهاره، وأسهر ليله، لا يزيده ذلك إلا بعداً من الله تعالى {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}. وأما اتباع الهوى فهو سبب للضلال، ورفضِ الحق، وإتيان الباطل، وقد قال الله تعالى لداود عليه السلام: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ}.
وقال: إن كل ضلال وقع في البشر فهو راجع إلى الجهل أو الهوى، وكان ضلال النصارى عن الحق سببه الجهل، كما كان سبب ضلال اليهود اتباع الهوى؛ ولذا أمر الله تعالى بالعلم لرفع الجهل {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، ونهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن اتباع أهواء الناس {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ}، وبين سبحانه أن اتباع الهوى يقود إلى الضلال {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}، والجنة موعد من أخضع هواه للحق، ولم يلوِ الحق لأجل هواه {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.
وأكد الخضيري أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم معصومة من إطباق الجهل على جميع أفرادها فيضلون عن دينهم، ويجهلون شريعتهم؛ لأن الله تعالى قد حفظ دينها ببقاء طائفة منها تتعلمه وتُبلغه، كما عصمها الله تعالى عن اجتماعها على الضلالة؛ فإن طائفة منها لا تزال على الحق إلى آخر الزمان، لكن لا يلزم من ذلك عدم تسرب انحرافات متنوعة إلى الأمة المسلمة سببها الجهل أو الهوى فيصل بها فئام من الأمة ضلالاً متفاوتاً بحسب ما فيهم من الجهل والهوى؛ ولذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق هذه الأمة كما افترقت الأمم السالفة، ولا يبقى على الحق إلا من التزم الكتاب والسنة، ورفع جهله بالعلم، وأخضع هواه للحق.
وقال الشيخ أحمد الخضير: إن الافتراق في هذه الأمة بدت بوادره بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما -، واشتد الافتراق وتنافرت القلوب بمقتل عثمان وعلي -رضي الله عنهما -، فأشعل المنافقون والحاقدون على الإسلام فتيل الفتن والحروب والثارات التي مزقت المسلمين، وفرقت كلمتهم، وجعلتهم شيعاً وأحزاباً يلعن بعضها بعضاً، وكل فرقة منهم تدعي أن الحق معها دون غيرها، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم بين في حديث الافتراق أن أهل الحق من أمته هم من تمسكوا بسنته، وساروا على منهج أصحابه رضي الله عنهم فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة) وفي رواية قال: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
وأبرز فضيلته أن من أكبر نتائج هذا الافتراق وآثاره السيئة على الأمة: تكفير بعضها بعضاً، ونتج عنه رفع السلاح، واستحلال الدماء، منذ مقتل عثمان رضي الله عنه إلى يومنا هذا، وأكبر الفرق المنسوبة إلى أهل القبلة التي أصلَّت للتكفير، واستحلت به دماء المسلمين، ورفعت به السلام على كل مخالف لها فرقة الخوارج، وقد أتوا من قبل غلوهم في الدين، وجهلهم بشريعة رب العالمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (هلك المتنطعون). وقال في حديث آخر: (وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين). وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ثالث: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه).
وأكد أن الجهل والهوى هما السببان فيما وقع من استهداف بلاد المسلمين ومنافعهم على أيدي بعض أبنائهم التفجير والتخريب الذي فرح به الكفار والمنافقون، وتضرر بنتائجه المسلون. فواجب على المسلم أن يحفظ نفسه ورعيته من القول على الله تعالى بلا علم، ومن الوقوع في استحلال من عصم الله تعالى دماءهم من إخوانه المسلمين؛ فإن شأن الدماء عظيم، وهي أول ما يقضى فيه بين العباد يوم القيامة، فهنيئاً لمن سلمت يداه من دماء المسلمين، وسلم لسانه من أعراضهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، كما جاء في الحديث، وإن في أمة الإسلام ما يكفي من أدواء التفرق والاختلاف، فلست بحاجة إلى من يزيدها تمزقاً وتفرقاً، وأعداء الإسلام قد أحاطوا بها من كل جانب، فما أحوج أبناء الأمة إلى اجتماع الكلمة، ورأب الصدع، وإزالة أسباب الاختلاف والتفرق، وقد قال الله تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
أهل البدع
من جانبه، قال عضو الدعوة والإرشاد بمكة المكرمة د. محمود بن محمد المختار الشنقيطي: إن من أعظم ما يصد عن اتباع الدين الحق وما بعث به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى والخير والنور هو الجهل واتباع الهوى، فالجهل مظاهره معلومة ومحسوسة ومشاهدة، وعلاجه ينحصر في النَّهَل من العلم الموروث والوحي المنقول، لكنّ الهوى هو الأصعب والأدق ُوالأشق والأطولُ علاجا، وآثاره على الأمة أخطرُ وأعظم، فكم أسيلت دماء واستبيحت حرمات، وقوّضت من محكمات مسلّمات، ووَقَع من فسادٍ في الأرض بدوافع تنحصر في الهوى {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}، مشيراً إلى أن الهوى عرفه أهل الشريعة بأنه: ميل النفس إلى ما تشتهى مما لم يبحه الشرع»، فتُقدمُه على الحق والهدى، سواء أكانت في العلم أو العمل أو أي شيء خلاف الشرع والحق، واتباع الهوى خلاف مقصود الشرع؛ لأن المقصد الشرعي من وضع الشريعة « إخراج المكلَّف عن داعية هواه؛ حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً».
وبيّن فضيلته أن أهم مظاهر الهوى: أن صاحب الهوى مفرق لجماعة المسلمين، مبتغٍ لهم العنت والمشقة، الطعن في الصالحين ديدنه، والهمز واللمز دأبه، والحسد طبعه، تراه معتزلاً كل من يخالف هواه، وإن كان أهدى سبيلا، مقرباً لكل من هو على شاكلته وإن كان للشيطان قبيلا، صاحب الهوى تسهل استمالته من قبل أعداء الأمة، والمتربصين بها الدوائر، فسرعان ما يرتد خنجراً في خاصرة الأمة، وسوطاً يلهبُ ظهرَها، وعيناً يكشف سرها، ويبدي سوأتها، ويهتك سترها، داعيةً لتثبيط العزائم، إماماً لكل متهتك وخائن كما قاله الدكتور إبراهيم الزهراني في مقاله « اتباع الهوى».
وأضاف قائلاً: إن صاحب الهوى - إذا كان عنده شيء من العلم الشرعي - مَفْزَعُ كل مفَتّرٍ، ومأوى كل مبطلٍ، ومستشار كل طاغٍ، وفتنة كل جاهل، بما يسوغه لهم من الآراء الباطلة، ويسوقه لهم من الأدلة الزائفة، ويلبس عليهم به من الشبه الصارفة، وصاحب الهوى لا حكَمَةَ له ولا زمام، ولا قائد له ولا إمام، إلهه هواه، حيثما تولت مراكبه تولى، وأينما سارت ركائبه سار، فآراؤه العلمية، وفتاواه الفقهية، ومواقفه العملية، تبع لهواه، فدخل تحت قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.
مجالات الهوى
وتحدث د.محمود الشنقيطي عن مجالات الهوى، وقال: إن منها: الاعتقاد الباطل ويسميه العلماء البدع، والعمل الفاسد المخالف للشرع وينتج عنه الجور في الحكم والتأويل الفاسد، والاجتهاد الخاطئ، ومجانبة مقاييس العلماء وسبيلهم في التعامل مع نصوص الشريعة، قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}، وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقال تعالى:{فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
واستعرض فضيلته أهم طرق ووسائل علاج الهوى ومنها: الإكثار من الدعاء المأثور ( اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق و الأعمال و الأهواء و الأدواء )، والعمل على تقوية مقام الإحسان ومراقبة الله وخشيته واستحضار علمه بما في الصدور في القلب، واستحضار كتابة الملائكة لكل ما يصدر عن المكلف (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) وأن أي شهادة ستكتب (ستكتب شهادتهم ويسألون)، والغالب أن صاحب الهوى يسلط عليه في الدنيا من يسقيه من نفس الكأس (فمن ذم أهل العلم بالباطل ذمه الناس بالحق والباطل )، وعلمه بأن الاستسلام لله والانقياد له بالطاعة، هو أصل دين الإسلام، فمن أسلم وجهه لله، ووقف عند حدود الله، فقد اهتدى، ونال الدرجات العلى. قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.
لا يقفون عند حدود الله
أما الشيخ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِالعَزِيز المطْرُودِي عضو الدعوة والإرشاد بمنطقة نجران فيقول: ما ضَلَّ أحدٌ عن الحقِ إلا لما اتّبعَ هواه، بلْ قدْ يصلُ إلى دَرجةِ العُبوديةِ لهذا الهوى كَمَا قَالَ اللهُ تَعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}، والجَهْلُ شَرُّ المنازلِ، والجاهلُ عدوُ نفسهِ، وعِبءٌ ثقيلٌ على المجتمع، وصَاحبُ الهوى إمامٌ في الضَلالةِ والغِواية، سَواءً كانَ هواهُ في العَقائِدِ والشَّريعةِ، أو كانَ في المعاملاتِ والأخْلاقِ والسُّلوك، وهو ما اصْطُلِحَ عليهِ بِالشُبُهاتِ والشَّهوات.
وأبان فضيلته أن غالبُ أهلِ الأهواءِ والبِدعِ لهمْ نصيبٌ كبيرٌ من الهوى، ذلكَ أنَّهم لا يحترمون النَّصَ الشَّرعي، ولا يقفون عندَ حُدودِ اللهِ، ولا يرجعونَ إلى مَنْ اجتهدَ في طَلبِ الحقِ، وفَهِمَ معناهُ مِنْ جِهَةِ قائِلهِ، ثمَّ إنهم أعْمَلوا عقولهم فيما لا تدركهُ، ولم تُؤمرْ بالخوضِ فيهِ، فانشغلوا بما لا يفرضهُ العقل ولا يتصوره، فَضلُّوا في بابِ العقائِدِ، وأحاطتْ بهم الشُبُهات، حتى أنكروا القطعي من النُّصوص، والبَيِّنَ من العقلياتِ، ثمَّ ظَهَرَ فريقٌ آخرُ جَعَلَ الإيمانَ اعتقاداً لا سُلوكاً، فتجرأَ على محارمِ الله، فأوبقَ نفسهُ، وخَسِرَ آخرته، ولا زالَ هؤلاءِ يَتشكلونَ ويظهرونَ علينا تارةً باسمِ الحريةِ الشَّخصيةِ، ومرةً باسمِ الحضارةِ والعولمةِ.
وأكد فضيلته أنه عندما يصبحُ الجهلُ والهوى ظاهرةً اجتماعيةً؛ تَظْهَرُ بينَ النَّاسِ أخلاقٌ وعقائدُ تُخْرِجُهُم عن فِطْرَتِهم، وإنسانيتهم التي خلقهم اللهُ عليها، فيحتاجُ النَّاسُ إلى البَينةِ والهُدَى، مشيراً إلى أن الخوارجُ ضلوا في القَديمِ والحديثِ، واستحلوا الدِماء المعصومةَ، والأنفسَ المحترمة، لما فَسَدَتْ عُقُولهم، فعاثوا في الشَّريعةِ فَساداً، فَقالوا على اللهِ بلا عِلْمٍ، فأصبحَ العُدْوان والزَّيْغُ يملأُ قُلوبَهم، ثم تحولَ إلى سلوكٍ يعيشونَ عليهِ، فجعلهم جَهلُهم وهواهُم لا يَسْمَعُون، ولا يَعْقِلُون، فابتُلِيت الأمةُ بهم في كُلِ عَصْرٍ ومِصْرٍ، بل لمْ يَخْلُ قَرنٌ مِنْهُم، وكَذا أربابُ الفِتَنِ، والذين يتبعون الشَّهوات، ويريدونَ أنْ نميلَ الميلَ العَظيم؛ وذلكَ بأنَّ تكونَ الزَّلةُ والشَّطَطُ مَرْكَباً لكُلِ شَابٍ وفتاةٍ، فَلا تقومُ في قُلوبهم عقيدة، ولا في حياتِهم سُلوكٌ صَالحٌ، ويُصْبِحُ الدين غَريباً عَليهم، بلْ ظهرَ في زماننا تشويهٌ للدينِ بسببِ هؤلاءِ وأولئكَ جعلَ كثيراً من أبنائنا لا يهتمُ بالدين؛ لأنَّ أصحابَ الأهواءِ صوروا له الدينَ على أنَّهُ مصدرٌ من مصادرِ القَلقِ وتضييقِ الحُريةِ، حتى أصبحَ الشَّابُ السَاذجُ لا يَفْهَمُ من الدين إلا الإرهاب!! فلا بدَ من وقفةٍ للعُلماء حتى يُذادَ عن حِياضِ الملةِ، ويستبينَ الحقُ؛ ونحنُ لا ننكرُ وجودُ هؤلاء، ولا نستطيعَ أن نكممَ أفواه أهل الباطل، لكنْ معَنا الحقُ الذي لا تقومُ لهُ أهوائهم الزَائفة.
وبين الشيخ المطرودي أن مظاهرُ الجهلِ شَتى، وصورُهُ لا حصرَ لها سَواءً في بابِ العقائِدِ، أو الأحكَامِ؛ ولأنَّ الأمةَ لا تقرأ، ولغتها أصبحتْ كمركبٍ في موجٍ هادِرٍ، واللغةَ وِعَاءُ العُلوم، والثَّقافَة، فإذا ضَعُفَتْ ضَعُفَ كلُ ما يتصلُ بها من عُلوم، مشيراً إلى أن هناك جَهْلَ بين النَّاسِ في أمورٍ من ضَرُوراتِ الدينِ مثل الصَّلاةِ والصِيامِ والحجِ والبيع ما يؤكدُ ذلك.
وفي هذا السياق أبرز فضيلته أنَّ دواءَ الجهلِ والهوى بتعظيمِ الشَّريعةِ، وتعظيمِ النَّصِ الشَّرعي، وتقديمه على الرأي ولا أقولُ العَقْلَ، لأنَّ العَقْلَ لا يعارضُ الشَّريعةَ متى ما كانَ سليماً من الآفةِ، ولا نجدُ في ديننا ذماً للعقلِ، ولا في كَلامِ أئمةِ الهُدى، إنَّما ذموا علمَ الكلام، وهو ضَربٌ من الجهلِ والهوى، كَما أنَّ لكل شيءٍ أصولهُ وقواعدهُ المنضبطةُ، والشَّريعةُ قامتْ على جلبِ المصَالح، ودفعِ المفاسد، والجهل والهوى ينافي ذلك، فنجدُ التَّحريم مثلاً مبنيٌ على قاعدةِ الضَّرر؛ والضَّررُ يزالُ ويدفع، والإيجابُ والتَّكليفُ مبنيٌ على قاعدةِ المصلحة؛والمصلحةُ تجلب، فالذي أريدُ قوله: أننا إنْ أردنا السَّلامة فعلينا أنْ نتعلمَ منهجَ الدليل والاستدلال حتى نسلمَ من الجهلِ والهوى، وهو واضحٌ وبيِّنٌ.
وشدد الشيخ المطرودي -في نهاية حديثه - على أنَّ للعلماءِ دوراً بارزاً في مدافعةِ الجهلِ والهوى،لأنَّ الجهلَ والهوى لا يمكنُ رفعه من الأرض، فهوَ من سُننِ اللهِ في خلقهِ، فمتى ما قامَ العلماءُ بالحجةِ والبيِّنة خَنَسَ الجهلُ والهوى، سواءً في النُّفوسِ، والأفرادَ، أوْ في المجتَمعَات، أوْ في النَظرياتِ الفلسفية، أما الحقُ فلا يغيرهُ سَفَهُ جَاهِلٍ، و لا حُمْقُ مُتبعٍ للهَوى، وصَدَقَ اللهُ: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي}.