بروكسل – واس :
تشهد مختلف الهيئات الأوروبية السياسية والاقتصادية جدلاً متنامياً حالياً حول صحة الخيارات التي أقرتها الدول الأوروبية حتى الآن في إدارة الأزمة المالية والنقدية، التي باتت تتحول إلى أزمة اقتصادية وكل ما يحمله ذلك من تداعيات وخيمة محتملة على الصعيد الاجتماعي في القارة.
وأمام التعنّت الواضح الذي تبديه أسواق المال والمتعاملين الماليين عموماً والمشككين في الخطوات المتخذة على الصعيد الأوروبي بدأت عدة أصوات أوروبية تشكك بدورها في قدرة المسئولين الأوروبيين الفعلية على بلورة مخرج سريع للأزمة التي تتخبط فيه منطقة اليورو منذ اندلاع أزمة الديون اليونانية.
وتتمحور الإستراتيجية الأوروبية المتفق عليه رسمياً منذ قمة فبراير الماضي الاستثنائية على محورين رئيسين وهما.
أولاً: تقديم ضمانات مالية هائلة لاستعمالها عند الضرورة لإنقاذ إحدى الدول المتسيبة.
وثانياً: التوجه لاعتماد سياسات تقشفية صارمة لضبط الموازنات والحد من العجز العام.
وفيما رحّب المتعاملون والمستثمرون الماليون بالشق الأول من الإدارة الأوروبية للأزمة والخاصة بإرساء آلية الطوارئ الأوروبية وبمبالغ مالية طائلة فإن التشكيك الحالي يتعلق بإجراءات التقشف المتتالية التي باتت الدول الأوروبية تعلن عنها الواحدة تلو الأخرى استجابة لمطالب محدّدة من بعض الدول الأوروبية الحريصة على تعزيز الاستقرار النقدي بالدرجة الأولى وعدم التركيز على عاملي النمو وإنعاش الاقتصاد.
وتوجد ألمانيا في مقدمة هذه الدول والمتهمة حالياً بالسعي لفرض نواميس صارمة في مجالات الحوكمة الاقتصادية وخصوصاً بالنسبة للموازنات العامة والديون على حساب دعم الاقتصاد الحقيقي، أي دعم الإنتاج والاستهلاك وتمكين العجلة الاقتصادية من تجاوز الأزمة الحالية.
الأزمة تتحول إلى مشادة سياسية
وتبدو الأزمة الأوروبية في طريقها إلى أن تتحول إلى مشادة سياسية تطال ماهية المشروع الأوروبي نفسه.
ويرى العديد من المحللين الأوروبيين أنه لا يوجد تناقض في الواقع بين إرادة فرض ضوابط تعامل صارمة في منطقة اليورو والسعي لحفز الاقتصاد إذا ما توفرت الإرادة السياسية الضرورية لدى المسئولين الأوروبيين وهي الهاجس الذي بات يساور بشكل جدي بروكسل وغيرها من عواصم التكتل.
ويرى المراقبون أنه سيكون من الصعب على المسئولين الأوروبيين أن يقنعوا المواطنين بمصداقية المشروع الاندماجي الأوروبي إذا ما ركزوا فقط وكما يفعلون حالياً على الشق الخاص بفرض مزيد من التقشف والضوابط النقدية الصارمة رغم أن هذه الضوابط تعد في نفس الوقت ضرورية على المدى البعيد وما يثير الانتباه حالياً هو التركيز الأوروبي على سرعة تنفيذ الاصطلاحات الهيكلية دون تقديم خطط موازية لإنعاش سوق العمل وحفز الاستهلاك وتشجيع دورة الإنتاج الصناعي.
ويمثل هذا الجانب أحد أسباب تشكيك أسواق المال في تحركات الاتحاد الأوروبي واستمرار الضغوط على العملة الأوروبية وخلال التسعينات بذلت الدول الأوروبية بشكل جماعي جهوداً غير مسبوقة لتعزيز استقرار الأسعار على حساب سوق العمل وذلك تحت ضغط معايير ماستريخت للتأهل للانضمام للعملة الأوروبية.
التركيز على الموازنات
على حساب سوق العمل
وتتجه منطقة اليورو وحسب المحللين الاقتصاديين نحو ارتكاب نفس الخطأ حالياً بالتركيز على التحكم في الموازنات وضبط آلية الديون العامة للدول على حساب سوق العمل وقال اولفير بلاشنار أحد مسئولي صندوق النقد الدولي في مقال نشرته العديد من الصحف الأوروبية أمس: إن التدابير التي أعلنت عنها اليونان تصب في الاتجاه الصحيح ولكن إجراءات التقشف الصارمة التي اعتمدتها الدول الأخرى تعدّ مبالغاً فيها. وقال رئيس البنك الدولي دومنيك شتروس خان: إنه ليس من الملزم بشكل تام أن تخفّض الدول الأوروبية نسبة العجز إلى مستوى 3% مع حلول 2013 كما تدعو إلى ذلك المفوضية الأوروبية وبدون نقاش.
وقال عالم الاقتصاد الأمريكي جوزيف ستغليتز الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد في مقال نشرته صحيفة (لوموند) الفرنسية يوم السبت الماضي: إن إجراءات التقشف الأوروبية ستتسبب في وقوع كارثة وان أوروبا بحاجة إلى آلية لاجتثاث البطالة وليس لفرض التقشف.
وعدّ روبرت زوليك رئيس البنك الدولي من جهته في صحيفة (فايننشال تايمز) أن أوروبا بحاجة إلى مرونة وإلى النمو وليس إلى التقشف للخروج من دوامة الديون. ويوجد إجماع لدى غالبية خبراء النقد أن الاتحاد الأوروبي لأسباب سياسة وخلافات بين قادته تعدد مراكز اتخاذ القرار يبدو متردداً في اعتماد خط واضح يجمع بين السعي للتوصل إلى استقرار نقدي فعلي وبين إرساء خطط طموحة للإنعاش الاقتصادي.