Al Jazirah NewsPaper Thursday  27/05/2010 G Issue 13755
الخميس 13 جمادىالآخرة 1431   العدد  13755
 
إعادة ال (دي دي تي) إلى الحياة
هنري ميللر*

 

بالو ألتو - إن بِل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت لرجل رائع، والرسالة السنوية المؤلفة من تسع عشرة صفحة والتي تصف عمل مؤسسة بِل وميليندا جيتس، المؤسسة الخيرية الأضخم على مستوى العالم، لا تقل عنه روعة.. ولكن بالنسبة لشخص بذكاء جيتس، القادر على الاستعانة بأكبر الخبراء في أي مجال على الإطلاق، فإن بعض الإستراتيجيات التي تتبناها مؤسسته محيرة للغاية.

ولنتأمل هنا النهج الذي اتبعته مؤسسته في التعامل مع الملاريا، والذي يركز على شبكات الأسِرة (الناموسيات)، والتدخل الفعّال بدرجة متواضعة، وتطوير اللقاح، وهو الحل الذي استند إلى تكنولوجيا فائقة والذي استعصى على الجهود المكثفة طيلة عقود من الزمان.. والمشكلة هنا أن هذا النهج يتجاهل وسيلة قديمة وزهيدة التكاليف وآمنة للسيطرة على الحشرة التي تنقل هذا المرض - بعوضة الأنوفيليس - ألا وهي استخدام مادة ال (دي دي تي) (DDT) الكيميائية.

إن مرض الملاريا مصيبة كبرى، وبخاصة بالنسبة لسكان البلدان الاستوائية الفقيرة.. وتؤكد الإحصائيات أن 41% من سكان العالم يعيشون في مناطق استوطن فيها هذا المرض، حيث يصاب به ما يتراوح بين 350 إلى 500 مليون شخص سنوياً.

ويفرض هذا المرض تكاليف باهظة على الأفراد، والأسر، والحكومات.. وتشتمل التكاليف التي يتحملها الأفراد والأسر على الأدوية، والسفر إلى العيادات الصحية طلباً للعلاج، والوقت الضائع في العمل والمدارس، ونفقات التدابير الوقائية.. أما التكاليف التي تتحملها الحكومات فتشتمل على صيانة المرافق الصحية، وشراء الأدوية والإمدادات، وتدخلات الصحة العامة مثل رش المبيدات الحشرية أو توزيع الناموسيات المعالجة بالمبيدات الحشرية، وإهدار العائدات الضريبية وعائدات السياحة.

وهذه التكاليف تشكل عبئاً اقتصادياً ضخماً على البلدان المبتلاة بالملاريا وتعوق كل السبل الممكنة لتنميتها.. وطبقاً للتقديرات فإن النمو الاقتصادي السنوي في البلدان التي تعاني من ارتفاع معدلات الإصابة بالملاريا أقل بنحو 1.3 نقطة مئوية من غيرها من البلدان.

إن العقاقير التي يطلق عليها الأرتيميزينين آمنة وتظهر قوة وسرعة في تثبيط نشاط الملاريا.. وإلى جانب عقاقير أخرى مضادة للملاريا، استُخدِم هذا النوع من العقاقير بفعالية ولعدة سنوات لعلاج الملاريا المقاومة للعقاقير المتعددة.. ولكن مقاومة المرض لهذه العقاقير بدأت في الظهور، ولا شك أنها سوف تتزايد مع الوقت.. لذا فإن القضاء على البعوض الذي ينشر المرض يُشكِّل السبيل الأساس لمنع انتشار الأوبئة.. لكن من المؤسف أن السياسات العامة المعيبة القاصرة تحد من الخيارات المتاحة.

ففي عام 1972، وبناءً على بيانات عن سُمية مادة الدي دي تي للأسماك والطيور المهاجرة (وليس البشر)، قررت هيئة حماية البيئة التابعة للأمم المتحدة حظر كل استخدامات الدي دي تي تقريباً، رغم أنه مبيد للآفات غير مكلف وفعّال.. وكان يستخدم على نطاق واسع لقتل الحشرات الناقلة للأمراض.. وفي وقت لاحق تم حظر استخدام الدي دي تي في أغراض زراعية على مستوى العالم بموجب معاهدة ستوكهولم لعام 2001 بشأن الملوثات العضوية الثابتة، والتي وصمت هذه المادة الكيميائية وفرضت حظراً فعلياً على كل استخداماتها.

من بين المبادئ الأساسية لعلم السموم أن حجم الجرعة عامل أساس في تحويل أي مادة إلى سُم.. ورغم أن الدي دي تي مادة سامة «متواضعة»، فهناك فرق شاسع بين استخدام كميات ضخمة منها في البيئة - كما فعل المزارعون قبل حظرها - وبين استخدامها بعناية وحرص من أجل مكافحة البعوض وغيره من الحشرات الناقلة للأمراض.. (حين تستخدم هذه المادة الآن فإنها تُرَش في الأماكن الداخلية بكميات ضئيلة لمنع البعوض من استيطان المكان).

ومنذ حظر الدي دي تي كانت الأمراض التي تنقلها الحشرات مثل الملاريا وحمى الضنك في تزايد مستمر.. والواقع أن الانتشار الهائل للأمراض التي ينقلها البعوض قادت بعض مسؤولي الرعاية الصحية إلى إعادة النظر في استخدام الدي دي تي.. ففي عام 2006، وبعد ما يقرب من خمسين مليون وفاة كان من الممكن تجنبها، قررت منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة اتخاذ مسار معاكس وإجازة استخدام الدي دي تي لقتل وطرد بعوض الأنوفيليس.. وقال أراتا كوتشي، المسؤول عن مكافحة الملاريا في منظمة الصحة العالمية: «يتعين علينا أن نتخذ موقفاً يستند إلى العلم والبيانات العلمية الدقيقة.. ومن بين أفضل الأدوات المتاحة لمكافحة الملاريا الفضالة المتخلفة عن الرش.. ومن بين المبيدات الحشرية التي تحظى بموافقة منظمة الصحة العالمية باعتبارها مواد آمنة للرش داخل المنازل، فإن مادة الدي دي تي هي الأكثر فعالية».

ولكن كيف يتسنى لنا أن نجفف مستنقع السياسات العامة؟

أولاً، يتعين على الحكومات أن تعيد تقييم المعلومات الغزيرة المتوفرة عن مادة الدي دي تي والتي تجمعت منذ سبعينيات القرن العشرين، ويتعين عليها أن توفر الدي دي تي على الفور لاستخدامه في مكافحة البعوض داخل المنازل.

ثانياً، يتعين على الحكومات أن تعارض القيود الدولية المفروضة على استخدام الدي دي تي وأن تحجب التمويل عن كافة هيئات الأمم المتحدة التي تعارض استخدام «أفضل تكنولوجيا متاحة» (بما في ذلك الدي دي تي) للسيطرة على الأمراض التي ينقلها البعوض.

ثالثاً، يتعين على مسؤولي الصحة العامة أن يسارعوا إلى شن حملة لتوعية السلطات المحلية والمواطنين عن الدي دي تي.. فالناس لا يسمعون الآن إلا قرع طبول الحركات البيئية المناهضة لاستخدام المبيدات، والإرث البائس لجهل راشيل كارسون وأتباعها.

وقد يكون من المفيد أن يُلقي فاعل الخير الأعظم في العالم بثِقَله وراء هدف إزالة وصمة العار الملصقة بالدي دي تي.

*طبيب وعالم الأحياء الجزيئية
خاص بالجزيرة


 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد