مضمون هذا العنوان كان مدخل خطيب الجمعة الماضية بجامع خلف مستشفى اليمامة شرق الرياض, وقد لمست من الخطيب ذاته في الجمع التي أصليها خلفه (وأحرص على ذلك) أنه يجمع خصالاً حميدة يفترض أن تتوفر بالخطيب، فمن ذلك حسن المظهر وترتيب الهندام وحسن البيان وعدم الإطالة والأهم هو حسن اختيار موضوع الخطبة فهو يتحف المأمومين بموضوعات متجددة تهم حياة الناس في حاضرهم المعاش ويسلك بهم مسالك الإقناع اللطيف فيربط القلوب والعقول والجوارح بروابط إيمانية تأخذ بالأنفس للتوجه إلى خالقها خاشعة مطمئنة, وأكاد أجزم أن بعض المأمومين يود لو طال حديث الخطيب لما يجده من سلاسة العبارة ومختصر القول وتحقق الفائدة, كان الخطيب في الجمعة الماضية يبين منهج السلف حين اشتعال الفتن, وأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد نبه وحدث عن فتن آخر الزمان وبين طرف النجاة منها وذلك بلزوم جماعة المسلمين, واعتزال الفتنة وأهلها، وأنه أمر بالفرار من مواقعها لئلا يفتن المرء في دينه, ولكيلا تتلطخ يداه بالدماء المعصومة, وأورد أمثلة لبعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ممن فقهوا ما وصاهم به المصطفى، فاعتزلوا الطوائف المتقاتلة ومنهم من خرج إلى البادية فراراً من الفتنة, وأشار إلى أن العزلة عند الفتن سنة الأنبياء وعصمة الأولياء وسيرة الحكماء.
وحث الخطيب على لزوم جماعة المسلمين وإمامهم والاقتداء بهدي النبي المصطفى وما كان عليه صحابته والتابعين فإن لم يكن من إمام فالعصمة بالعزلة, وحذر من عواقب الإفساد في بلاد المسلمين وترويع الآمنين واستباحة الدماء, ومما يورث الفرقة والاختلاف والتباغض والتدابر وضعف المسلمين, ويكون سبباً لاستقواء الكافرين وأعداء الدين.
ولم أسمع في الخطبة تعنيفاً ولا ترهيباً ولا تكفيراً ولا إقصاءً لأحد واتهامه بالنفاق ونحو ذلك, وهذه في نظري من مقومات الخطبة والخطيب المجيد لصنعته الذي ينشد المصالح العامة في النصح للأمة بعيدا عن تأثير التيارات المتلاطمة المتصارعة جدلياً وفكرياً, فما أحوجنا لخطباء مثل هذا الشاب الواعي لأهدافه النابه لمصالح ومستقبل أمته, بحسن الانتقاء للموضوعات الخطابية ثم بحسن سبكها بمهارة المتعلم العارف المدرك لأبعاد ما يقول, كما يدرك تدرج مفاهيم ومستويات المتلقين.
أنقل هذه الصورة الحسنة لهذا النموذج الشاب ليس لمعرفة سابقة بشخصه الكريم ولا إطراء له على حساب الهدف النبيل المراد, والقصد إبراز القدوة التي يأمل الجميع أن يكون الخطباء على تلك المنهجية المقنعة الواضحة، وإن كان لي من ملاحظة فهي أنه كان بودي لو أن الشيخ قد أوضح أن اعتزال الفتن لا يعني التخلي عن المشاركة بجهود إخمادها بالوسائل المشروعة بعيداً عن المشاحنات وتأجيج المواقف, بل بالرأي الرشيد والحكمة والحق والعدل ما أمكن من أهل الرأي وقادته والمؤثرين في التوجيه السليم للأزمات, فإن لم يمكن لهم ذلك فالاعتزال أسلم لهم وأحوط حتى لا يكونوا هم من ضحايا الفتن وتفقدهم الأمة وهي أحوج ما تكون للحكماء والعقلاء ودعاة الحق والعدل إلى الصراط المستقيم والمنهج القويم في كل شئون الأمة ومصالحها الدينية والدنيوية.