نجحت بعض القنوات التلفزيونية العربية في إثراء مفهوم الحوار بين المسؤولين والنخب الفاعلة من جهة وبين جمهورها من جهة أخرى، وشهدت البرامج الحوارية مساحة جيدة من الحرية التي عززت مفهوم الفاعلية في الرسالة الإعلامية بين القائم بالاتصال (المرسل أو الوسيلة) وبين الجمهور (الرأي العام).
وكان من أسباب هذا النجاح نسخ برامج غربية في طبيعتها وآلية تقديمها، وتعريبها لتقدم للجمهور بلسان عربي، ومن ذلك برنامج الاتجاه المعاكس Crossfire، وبرنامج وجه الصحافة Meet The Press، وغيرهما. غير أن هذه البرامج جلبت آلية التقديم وأسلوب الحوار بطريقة لا تناسب (في خطابها) الثقافة العربية. كنت أشاهد حلقة من هذا النوع من البرامج، فلحظت أن مقدم البرنامج ينادي الضيف باسمه الأول المجرد، حتى وإن كان شيخاً جليلاً أو مسؤولاً كبيراً في الدولة، فيقول - مثلاً - يا عبد الله، ولا يقول (يا شيخ عبد الله) أو (يا فضيلة الشيخ)، وينادي المسؤول بقوله (يا علي)، ولا يقول (يا معالي الدكتور علي) أو (يا دكتور علي)، محاكاة لما دأب عليه الغربيون في طريقة حواراتهم مع النخب أو المسؤولين في برامجهم الإذاعية أو التلفزيونية، بدعوى أن ذلك يمنح البرنامج مصداقية ومهنية. وهذه القضية وإن كانت عرفاً متبعاً في المجتمعات الغربية إلا أنها لا تناسب قيم المجتمعات العربية وعاداتها التي تمنح قدراً وافراً من الاحترام لذوي الهيئات، وبالتالي فإنها ليست من المهنية في شيء، إذ المهنية مرتبطة بالسياقات الثقافية لجمهور الوسيلة الإعلامية. بالتأكيد ليس هذا كل شيء في المهنية الإعلامية، لكنها توطئة لحديث أدلى به معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجه في مقابلة عاجلة مع صحيفة الوطن (8 - 6 - 1431 هـ، العدد 3522) تحدث فيها عن موضوع (المهنية) قال فيها ما نصه: (عندي هاجس اسمه المهنية.. المهنية أساس النجاح)، وهي لفتة جميلة من المسؤول الأول عن الإعلام يؤكد فيها على هذا المعنى.
وأجدني - ابتداءً - اتفق مع معاليه في حديثه حول قناة الإخبارية والصحافة المحلية في أنها تشهد تطوراً نوعياً في المهنية، وهو - بلا شك - تطور ملحوظ نرقبه نحن المتخصصون، ونلحظ إيجابياته مقارنة بما كان عليه العمل الإعلامي في السنوات الماضية. وليسمح لي معاليه بالقول إننا ننتظر المزيد من هذه المهنية التي تشمل الرسالة والوسيلة والحرية الممنوحة لهما.
أدرك أن هذا مطلب يأتي مع الوقت، ويمكن تحقيقه تدريجياً، إذ هو مرتبط بمساحة الوعي لدى المسؤول والمواطن، ومواكبة التطور في عوامل المهنية المختلفة (في أبعادها السياسية والاجتماعية) مرهون بتطور الوعي المجتمعي بكل فئاته ومستوياته. بيد أن هناك أموراً هي في متناول صانع القرار الإعلامي، وهو معالي الوزير ومن حوله من المسؤولين في الوزارة، كل بحسب اختصاصه. يمكن العمل عليها لتحقيق أكبر قدر من المهنية الإعلامية. ويحضرني في هذا السياق جملة من الملحوظات على قضية المهنية في التلفزيون - مثلاً -، منها:
1- إن الرسالة الإعلامية (الرسمية) تفتقر إلى الرؤية الإستراتيجية التي ينبغي تحقيقها على المدى البعيد. بمعنى: ما الذي تريد الوزارة أن تحققه خلال سنوات معينة في مسألة التأثير على الوعي والمواقف والسلوك بالنسبة إلى جمهورها من المواطنين؟ وما الخطوات العملية التنفيذية التي ينبغي للتلفزيون - مثلاً - أن يقوم بها لتحقيق هذه الرؤية الإستراتيجية؟
الذي أعرفه - وأرجو أن أكون مخطئاً - أن هناك خطة برامجية لا تعتمد على رؤية إستراتيجية واضحة الأهداف والغايات. صحيح أن السياسة الإعلامية العامة للمملكة واضحة ومكتوبة، لكننا نحتاج إلى (رؤية تفسيرية) لهذه السياسة تتغير بتغير المجتمع والمعطيات التي يفرضها واقع معين في مراحل معينة، وهذا ما أتمنى على معالي الوزير ومن معه من المسؤولين أن يأخذوه بعين الاعتبار.
2- وتتفرع عن مسألة الرؤية الإستراتيجية مسألة أخرى، وهي أن القائمين على وسائل الإعلام الرسمية - التلفزيون على وجه الخصوص - يرسمون الخطط البرامجية وفقاً لرؤيتهم هم، وقد تكون هذه الرؤية بعيدة - أحياناً - عن حاجات المواطنين وإشباعاتهم، ما يجعلهم ينصرفون عن هذه القنوات التلفزيونية السعودية في ظل التنافس المحموم من القنوات الفضائية على جذب الجمهور، والجمهور السعودي على وجه الخصوص. وأساس النجاح لأي قناة إعلامية هو الوقوف على حاجات الجمهور وإشباعها، وفق ما تقتضيه النظريات الإعلامية المتخصصة. ولذا أقترح على المسؤولين في الوزارة قبل إعداد الخطط البرامجية القيام باستطلاعات لرأي الجمهور حول تطلعاتهم إلى التلفزيون السعودي، وما يرجونه منه، حتى تكون هذه الخطط البرامجية أقرب إلى النجاح، ومن ثم إحداث التأثير المطلوب. 3 - وإن من المهنية الإعلامية الرفيعة أن يقف الإعلام على حاجات المجتمع الأساسية، وفي مجتمعنا فإن العامل الديني هو أهم عوامل التأثير في الجمهور، وهو ما جعل القناة الأولى - فيما مضى - تتربع على صدارة القنوات الأكثر مشاهدة بين السعوديين. ونتمنى أن يعود التلفزيون السعودي إلى هذا المجد، بتكثيف البرامج ذات الطابع الديني التي يفتقر إليها الجمهور في القنوات الفضائية بشكل عام، وأن يكون للعلماء والمشايخ وطلبة العلم دور مشهود في إثراء الخطط التلفزيونية ببرامج ذات طبيعة دينية تعالج قضاياهم الشرعية والتربوية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية، وغيرها. فتلك هي الورقة المهنية الرابحة التي يمكن أن ينافس فيها تلفزيوننا في عصر التدافع الإعلامي المحموم.
4 - الإعداد للبرامج، فغالباً ما نرى برامج يشعر معها المشاهد أنها معدة على عجل، وتفتقر إلى إعداد جيد في اختيار الموضوع ومحاوره وضيوفه وهناك حالات أذكرها - ويذكرها غيري - نكون فيها تحت وطأة الظهور الإعلامي المُلح للحديث عن قضية لم يبذل القائمون على الإعداد للبرنامج التلفزيوني جهداً في صياغة محاورها، ما ينعكس على نوعية الرسالة التي يقدمها التلفزيون إلى جمهوره.
5 - أثناء الإعداد للبرامج التلفزيونية، لا نلحظ وجوداً مميزاً للتقارير الميدانية التي تصاحب البرامج، فهذا النوع من الفنون التلفزيونية أصدق تأثيراً من الحديث الخطابي، وأرجى في جذب المشاهد وإقناعه بمضمون الرسالة. والملاحظ أن تلفزيوننا، وخاصة في قناته الأولى، يفتقر إلى هذا النوع من الفن البرامجي الذي يتطلب عملاً مضنياً ومكلفاً، لكن المهنية التي نرجوها تستحق شيئاً من هذا.
6 -هناك قضايا فنية شكلية كثيرة، أتمنى على المسؤولين عن التلفزيون ملاحظتها، فهي داخلة في صميم (المهنية)، أذكر منها ضرورة الالتزام بمواعيد استضافة الضيوف، فقد حصل أكثر من مرة أن يأتي الضيف إلى مقر التلفزيون فلا يجد اسمه في تصاريح الدخول إلى مقر التلفزيون، أو يُفاجأ في الطريق باتصال يخبره بصرف النظر عن البرنامج، أو تأجيله، أو غير ذلك من الأسباب. وحتى إذا حضر الضيف فإنه لا يجد (في أحيان كثيرة) من يستقبله ويتلفت يمنة ويسرة فلا يجد إلا موظفي الأمن، وكأن الحاجة للضيف وليست للتلفزيون، وهذا مشهد لا نلحظه في القنوات التلفزيونية الخاصة التي تحتفي بالضيف، وتشعره أنه (ضيف) على القناة، قد ترك أعماله ومشاغله ليسهم مع القناة في خدمة جمهورها !!
هذه إضاءات جاءت في سياق التعليق على حديث معالي الوزير عن مسألة المهنية في الممارسة الإعلامية ذكرت منها ما أسعفتني به الذاكرة على عجل، ولا أخال الدكتور عبد العزيز خوجة، وهو المسؤول القادر والمثقف، إلا مستجيباً لكل ما من شأنه أن يرقى بمستوى الأداء الإعلامي. وتحقيق شرط المهنية مرهون ببذل الجهود الصادقة لتكون هاجس المسؤولين في وزارة الثقافة والإعلام، وليس الوزير وحده.
وأما الحديث عن المهنية في صحفنا المحلية التي سُر بها الوزير فتستحق حديثاً مستقلاً أرجو أن تتاح الفرصة للكتابة عنه قريباً.
أستاذ الإعلام السياسي في جامعة الإمام محمد بن سعود