في المضمار الحضاري يتبارى دائماً متسابقان أحدهما متشبث بالأصول والآخر ثقافي متحرك.. كل واحد منهما يحاول إقناع المواطن البسيط، الذي هو الأغلبية الصامتة وخادم القوم ولب المشكلة، بجودة ما لديه.. في محاولات الإقناع هذه تختلط البضاعة النقية بالمغشوشة، والنيات البريئة بالمخادعة، ونادراً ما يجري السباق حسب القواعد الشريفة والقناعات الصادقة.
لكن الأصولي المتشبث ذو نفس طويل وإصرار لا مثيل له؛ لأن قناعاته راسخة موروثة وليست مكتسبة، ومصلحته واضحة ومنطقية ومرتبطة بالثبات في نفس الزمان والمكان، وإن كان لا بد من حركة فإنها تكون داخل دائرة يعود آخرها إلى أولها. أما المثقف المتحرك فغالباً ما يكون خط نهايته في السباق هو الوصول إلى حياة الجاه والرفاهة.. هذا هو الخط النهائي المعتاد لماراثون المثقف الشخصي، على الأقل في المجتمعات التي تعيش تحدياً حضارياً عاصفاً عندما تكون بحاجة ماسة إلى تواجد المثقف المرشد.
تواجد المثقف يصبح حاجة ماسة في المجتمعات المتوجسة والمستوحشة من رياح التغيير بما قد تحمله من بذور عقلية وتجديدية وتمدينية. عموماً، التوجس من رياح الثقافة وبذورها قديم قدم إنسان الكهوف. العقل المتوجس المرتاب يظل قلقاً يتلفت يمنةً ويسرةً، وإلى الخلف، يدور في المكان على رؤوس أصابعه، ويراقب بحدقات متسعة ما يدور أمامه، ولكن من مسافات بعيدة؛ خشية الإصابة بالعدوى. يظل المتوجس هكذا مدة طويلة يراقب ويتمتم في داخله ويتردد على حكمائه يستشيرهم فيما يراه، لكنه لا يتمعن بعقله الذي وهبه الله له بطريقة مَن يريد أن يفهم؛ فهو لم يتعلم أساساً الاعتماد على عقله في الأمور المصيرية من قبل.
للخروج من هذا المأزق الحضاري لا ينفع المجتمع المتردد ويحصنه أن يختصر الصراع في التمسك بآراء ونصائح المستفيدين من بقاء الأمور على ما هي عليه إلا فيما يخص الثوابت المعلومة بالضرورة من العبادات والمعاملات التي لا جدال فيها ولم يعقدها الفقهاء بشروطهم المزودة بالشريط اللاصق الملتصق بالزمان والمكان. في مجتمعات التوجس هذه وبعد زمن طويل يبدأ المثقفون بالتوافد على الساحة والشمشمة وقياس درجات الحرارة ثم يدخلونها، بداية فرادى فرادى ثم زرافات زرافات؛ حتى يعج المكان بكل الأشكال والألوان منهم، ويثور الغبار الثقافي فوق الرؤوس، ويصاب المجتمع بالرشح والعطاس والسعال.
المواطن البسيط، الذي هو لب المشكلة والجمل الذي تقتطع أرزاق المجتمع من لحمه ودمه يستمر في المراقبة والتوجس لكن توجسه هذه المرة يكون من بني جنسه المثقفين. تتكون تدريجياً عنده بعض القناعات بأنهم انتهازيون وليسوا أهلاً للثقة؛ لأنهم يتحدثون بلغة ومصطلحات لا يفهمها، ولأنهم يتذاكون عليه ويتكسبون من ورائه. يزداد نفوره منهم حين يلاحظ أن الواحد منهم ما يلبث أن يبلع لسانه ويختفي من الساحة بمجرد وصوله إلى درجة أعلى في السلم الإداري والاجتماعي.هكذا يتعمق ويتسع الخندق بين المواطن والمثقف؛ فيبقى المواطن ملتصقاً لبقية حياته بحكمائه القدامى وبما اعتاده بالأمس، أما الغد فله ألف حلال.ولكن ولكن ولكن تبقى قلة قليلة من المثقفين الدراويش الذين يصمدون للتضييق ويتحملون العيش على الكفاف، والذين ويا للغرابة تتفق كل أطياف المجتمع، ولهذه المرة فقط، على وصفهم بضعف العقل والسذاجة. هؤلاء ما يلبثون أن يذوبوا كالشموع وينتهوا بلا مريدين ولا أصدقاء ولا ذوي قربى. ولكن مرة أخرى، ومهما طال الزمن، سوف تتذكرهم وتبجلهم الأجيال اللاحقة؛ لأنهم هم الذين احترقوا؛ فأناروا لهم طريق المستقبل.