ما إن قرأت مقالك (أيها التفاؤل، ما أوسعك !) وعرضك لقصة القارئ التائب الذي أرسل لك متسائلا عن إمكانية عودة زوجته إليه بعد مرور أكثر من عشرين سنة، حتى تداعت ذكرياتي وانهمرت عبراتي، وعدت بذاكرتي مع زوجي أو بالأحرى قاتلي، ومنتهك إنسانيتي.
يا صاحبة المنشود: أنا زوجة ذلك الرجل، وأعلم أن تلك العبارات الأدبية التي وردتْ بمقالك ليست من أسلوبه ولا صياغته ! ولكنك عدّلت الكلمات وحسّنت العبارات وجمّلت الألفاظ حفاظا على مظهر زاويتك، فما علمتُ من هذا الرجل إلا الفوضوية والضياع !
فقد كنت البنت المدللة لأسرتي، بل كنت المفضلة لدى والدي الحبيب. تعلمت حتى حصلت على البكالوريوس وتقدمت لدراسة الماجستير. كنت متفوقة وعاقلة وذكية. وكان والدي رجلا مريضا وفقيرا، ولم يرزق ذكورا بل كان نصيبه خمس بنات وزوجة بسيطة في التصرف والتدبير، وكان له صديق ثري عزيز عليه، حبيب إلى نفسه، يجود علينا حين تشيح الدنيا بوجهها عن أبي، فأفضاله علينا لا نكاد نحصيها، حتى أنه يتصرف في شؤوننا الخاصة ويشتري لنا ما يلزمنا، فلم نشعر بالفروقات الاقتصادية بيننا وبين صديقاتنا في المدرسة والجامعة.
وكان هذا الصديق معجبا بتفوقي وذكائي مثنيا عليه، حتى أنه كان يداعبني وأنا صغيرة بقوله (يا ليتك بنتي)! وبرغم حبي لأبي، فإن كلماته كانت تلامس مشاعر نقص عندي وهو الرجل الوسيم الغني الصحيح.
وأتوقع أنك أدركت سبب اقتراني بزوجي، فهو ابن هذا الرجل المتفضل علينا ! وأرجو ألا تكثري عتابك أو تساؤلك عن سبب الاقتران به ! لأنني ببساطة أردت أن أنتشل أسرتي من وضعها المزري وأصعد بها لوضع أفضل. ولا تكثري لومك! فشعوري بالمسؤولية قادني للموافقة دون مقاومة، وكنت أعلم أنه لم يكمل دراسته، وأنه مدلل، وأعزو ذلك لحياة الثراء التي تعيشها أسرته البرجوازية، وكنت أتطلع للانضمام لها.
ولا أخفيك أنني أحببت زوجي كثيرا، فقد كان وسيما خفيف الظل منطلقا متفائلا، لا يحمل هموما، واستمتعت في السفر معه فرأيت وجوه الدنيا وألوانها وأشكالها.إلا أنني لاحظت عدم اهتمامه بأداء الصلاة وتدخينه المفرط، ولكنني تجاهلته في بداية الأمر برغم أنه أشغلني فأنا من أسرة متدينة ووالدي لا يترك الصلاة في المسجد رغم مرضه!
وعندما عدنا من السفر أصبح يخرج من المنزل ولا يرجع إلا متأخرا. وحين يعود يكون في حالة مزرية من أثر الخمر، وبعدها بفترة اكتشفت تعاطيه المخدرات، ولم يكن هناك مجال للعودة لمنزل والدي حيث بدأ الجنين يتحرك في أحشائي، واستشرت من نصحني بالصبر لعله يرعوي، حتى أنجبت طفلي الثالث وأنا أتوقع أن يرده الله إلى رشده، وأحتسب على الله ما نالني من إهانة وشتم وضرب وعذاب بسبب نصحي وتوسلي له بأداء فروضه وترك المسكرات والمخدرات.
وما زاد في ألمي وفاة والدي، فشعرت بالانكسار والوهن، ولولا وقوف والده معي ومؤازرته لما بقيت عنده ساعة واحدة ! فقد ظل الرجل وفيا شهما ونبيلا، ولكنه لم يستطع أن يرد عني أذى ابنه لاسيما أن والدته كانت تقف في صفه دوما وتحملّني مسؤولية ضياعه.وبعد فصول من مسرحيات الأذى والعنف فضلت الانفصال برغم فقدي حق حضانة أبنائي، إلا أنني نجوت بنفسي وتركتهم بكفالة رب لطيف بهم، وغادرت إلى بيت أسرتي حيث كانت والدتي مريضة تحتاج للرعاية، ولم يكن ثمة مورد للرزق حيث لم ألتحق بوظيفة، فوجدت أن الزواج هو الحل! وتزوجت رجلا لطيفا كريما ساعدني على البر بوالدتي حتى توفيت مع زوجي في حادث سيارة نجوت منه بأعجوبة، لولا إعاقة تلازمني وأحمد الله عليها.
أيتها الكاتبة: لولا أن جدَّ أبنائي كان يحضرهم خلسة لنسيت ملامحهم، فقد قسا والدهم وأحرق قلبي بفقدهم، وحين شكا لي ابني الأكبر سلوك والده ساعدته في علاجه لعله يكون مواطنا صالحا، وكنت أدعو ربي أن يشفيه، فما حقدت عليه قط، ولكنني لا أريد العودة لرجل أهانني ومزق إنسانيتي. وبرغم تفاؤله بعودتي، إلا أن تفاؤله منقوص، لأنه مدلل اعتاد أن يطلب فيُلبى طلبه.
فهل تلومينني الآن؟!
www.rogaia.net
rogaia143@hotmail.com