سيطرت على ذاكرتي عبارة خادم الحرمين المليك عبدالله والتي قالها في مجلس الشورى قبل فترة، فأتذكرها كلما رأيته :»يشهد الله تعالى أنني ما ترددت يوماً في توجيه النقد الصادق لنفسي إلى حد القسوة المرهقة،
كل ذلك خشية من أمانة أحملها هي قدري وهي مسؤوليتي أمام الله - جل جلاله - ولكن رحمته تعالى واسعة فمنها أستمد العزم على رؤية نفسي وأعماقها، تلك النفس القادرة على توجيه النقد العنيف الهادف قادرة - بإذن الله - أن تجعل من ذلك قوة تسقط باطلاً وتعلي حقاً «...يافداك... أبا متعب!!!
نحن جزء من هذا العالم ولا يمكن لنا أن نختلف عنهم تحت أي حجة أو ذريعة، نتعرض إلى ما يتعرض له من كوارث ونوازل وفتن، وهناك مدن تختفي عن الخارطة، وهناك آلاف القتلى، وهناك خسائر بالمليارات، ولاتقف الشعوب المتمدنة وتجلد ذاتها لتزيد من معدلات الخسارة، وتحاسب من يستغل الثقة حساباً عسيراً، ومن يطلب من مجتمع بشري أن يكون ملائكياً فهو يطلب مستحيلاً، وهذه الميزة لم تتأت لمجتمع المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، والأخطاء البشرية لم تسلم منها أمة من الأمم في واقع يحتم علينا ضرورة المحاسبة ولذلك أصدر خادم الحرمين الشريفين أوامره للتحقيق في كارثة جدة الأخيرة مما يدل أننا في سباق للقضاء على الفساد والمفسدين...
ولكن ما نراه في الآونة الأخيرة من التركيز على كلمة «فساد» بطريقة غير موضوعية حتى أصبنا العامة والجمهور بإحباط وهزيمة بطريقة ممنهجة تبث التوحش في النفوس لتؤمن بأي مخلص ولعل هذا مما ركز عليه التنظيم الحركي حتى أصبح من أجل مهامه تشويه مشروعات الدولة العظيمة ومن يطلع على استراتيجية الحركيين في كتاب إدارة التوحش لأبي بكر ناجي يقف بعينيه على رسم سياسات إعلامية تشوه المشروعات الإيجابية التي من المفترض أن تزيد من الوطنية والثقة بالحكومة ومؤسساتها الرسمية وغير الرسمية وفي مقابل ذلك يوجه اللوم والوصف بما لايليق لكل كاتب أو متحدث عن تلك الإيجابيات ويمجد كل من يتجاهل تلك المشروعات ويركز على نقد الذات وجلد الحكومة، بسبب ثقافة تعب الحركيون في نشرها وتكريسها حتى استوت على سوقها..
لماذا لا ننظر إلى الجانب الإيجابي في المجتمع، لماذا نزرع الخوف والظلام والفاحشة بدلاً من التفاؤل، لماذا نغرس ثقافة التوحش في أجيالنا، لماذا نتجاهل الدور العظيم للمسؤولين وعلى رأسهم ملك يقسو على نفسه حد الإرهاق ووزراؤه الذين لاتنام أعينهم ولا تفتر أرجلهم من متابعة مشروعات الدولة وحاجات المواطنين وإن وجدت أخطاء فعلاجها بالطرق الشرعية دون تشفٍّ وتضخيم انطلاقاً من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - إذ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من قال هلك الناس فهو أهلكُهم. أخرجه مسلم.
وجاء في رواية بلفظ آخر فهو أهلكَهم، يعني أهلكُهم وأهلكَهم، أهلكُهم أشدهم هلاكا، أهلكَهم تسبب في إهلاكهم، وقال الخطابي:» معناه: لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساوئهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوأ حالا منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منه والله أعلم «.... وكان عليه الصلاة والسلام يحب الفأل الحسن؛ لأنه مفتاح من مفاتيح الخير وكان هذا التحذير منه -صلى الله عليه وسلم- موجهاً إلى المرجفين القانطين الذين يجهلون ركائز الشرع الإسلامي الذي اهتم كثيراً بما يعزز الثقة بين الدولة ومواطنيها فذم التشاؤم، والقنوط، واليأس، لأنها كلها تورِّث العجز والخمول، والقعود والضعف والتخلف عن الخير، وربما كثرة النقد وتضخيم الأخطاء تورث في نفس المسؤول عدم الحماس لتقديم الخير والتفاني من أجل الشعب فالمتشائم يحرم نفسه وغيره من الخير، الذي هو مقيم في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال رجل للإمام أحمد كما ذكر ابن الجوزي في المناقب: يا إمام ظهر الباطل على الحق، لما قامت المعتزلة بالفتنة، قال: كلا بما أن قلوبنا على الحق فالحق ظاهر.... وقال مالك بن أنس: «لا أعرف في أمة محمد إلا أنهم يصلون جميعاً».
إن المنهج الإسلامي ينبثق من قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) لأن ذلك يؤدي إلى الإرجاف، وقد أَرْجَفوا في الشيء؛ أَي: خاضُوا فيه في لسان العرب، وهو زَندُ الفِتنةِ في فقه اللغة، وإيقاع الرجفة بالفعل أو بالقول، ويقال: الأراجيف ملاقيح الفتن في التعاريف، والمرجفون: هم الذين يولِّدون الأخبار الكاذبة، التي يكون معها اضطراب في الناس، بهدف زعزعة الثِّقة عند المسلمين. وقال ابن مسعود: الهلاك في اثنتين: العجب والقنوط، ويستعمل المرجفون عوامَّ الناس والسُّذَّج منهم؛ لأجل نشر أراجيفهم وإرباك المسلمين؛ حيثُ يبثُّون أخبارًا تنذر بضعف المسلمين وتفوُّق أعدائهم عليهم، ويقوم بعضُ العوام ببثِّ هذه الدعاوى، فيكونون أبواقًا للمرجفين من حيثُ لا يشعرون؛ كما قال الطبري -رحمه الله-: «الإرجاف: الكذب الذي نافقه أهل النِّفاق، وكانوا يقولون: أتاكم عدد وعدة». وقال الشيخ القرضاوي: من مظاهر التطرف ولوازمه: سوء الظن بالآخرين، والنظر إليهم من خلال منظار أسود، يخفي حسناتهم، على حين يضخم سيئاتهم. الأصل عند المتطرف هو الاتهام، والأصل في الاتهام الإدانة، خلافاً لما تقرره الشرائع والقوانين: إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
وقال ابن عباس: الإرجاف: التماس الفتنة، والإرجاف: إشاعةُ الكذب والباطل للاغتمام به». وقال الطاهر بن عاشور: «والإرجاف: إشاعة الأخبار، وفيه معنى كون الأخبار كاذبة أو مُسيئة لأصحابها يُعيدونها في المجالس؛ ليطمئنَّ السَّامعون لها مَرَّة بعد مرَّة بأنَّها صادقة؛ لأنَّ الإشاعة إنَّما تقصد للترويج بشيء غير واقع أو مِمَّا لا يصدق به؛ لاشتقاق ذلك من الرجف والرجفان، وهو الاضطراب والتزلزُل، فالمرجفون قومٌ يتلقَّوْن الأخبار، فيُحدِّثون بها في مجالسَ ونَوَادٍ، ويُخبرون بها من يسأل ومن لا يسأل».
ومن الأمثلة على تشويه الأعمال الجليلة والنقد غير الصادق المنادة بهدم المسجد الحرام مع أن توسعة الحرمين الشريفين التي قامت بها الدولة لم يشهد التاريخ مثلها وهي تعد مفخرة لكل إنسان سعودي حينما يرى تذليل السبل والصعاب لزوار بيت الله ومسجد نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ثم نفاجأ بطرح حركي يشوه هذا المشروع الجبار ليهدم ويبني من جديد بحجة الاختلاط مع أن هناك طرقاً شرعية لعلاج مثل هذا دون هدم مشروعنا الكبير في المسجد الحرام وتوسعة المسعى، وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية وغيرها...كما نفاجأ بترديد كلمة فساد ومفسدين دونما تثبت في سيول الرياض الأخيرة ونتجاهل المشروعات الكبيرة مثل تطوير وادي حنيفة ومركز الملك عبدالله المالي وتطوير طريق الملك عبدالله وبناء ناطحات السحاب وغير ذلك...
أيها السادة إن الفساد والضلال المبين اللذين غرسهما الحركيون ودعاة التهييج في عقول شبابنا حتى تحولوا إلى قنابل موقوتة في أنحاء العالم أهون عند الله -جل وعلا- من غرق سيارة سيتم تعويض صاحبها وسقوط جسر تحت الإنشاء ستتم إعادة بنائه من جديد في ظل الصبر على أقدار الله المؤلمة... والمهم أننا لا نزال بخير ومجتمعنا بألف بنعمة وثقتنا بوطننا ومسؤوليه لاتهتز وخسائرنا مهما بلغت فهي قليلة ولله الحمد مادام مليكنا يحاسب نفسه وينقدها حد القسوة المرهقة والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com