عبودية المجتمع لأفراد منه - سواء أكانوا أحياء أم سدنة لأموات - هي أكثر ما يميز المجتمعات المتخلفة والتي يكثر فيها ظلم بعض أفراده لبعض. والعبودية الحقيقية الكاملة هي عبودية الروح والفكر والعقل، لا عبودية الفعل والتصرف. ولذا فهذا النوع من الاستعباد لا يمكن أن يكون سياسيا ولا اجتماعيا. فالقهر السياسي أو الاجتماعي لا يعدو إلا أن يكون استعبادا للمظاهر الخارجية لأفراد المجتمع سواء أكان بقوة النظام أو بقوة العرف. عبودية الإنسان للإنسان الكاملة هي استسلام عقل العبد وفكره لسيده، وهذه حالة لا يُتخيل تصور وقوعها إلا إذا تلبست بلباس العقائد الأيدلوجية.
ميول الإنسان إلى التعلق بالمحسوس الملموس لإضفاء الطمأنينة الروحية لإزالة الخوف من عالم الغيب المجهول هو الدافع وراء تعلقه برموز تمثل هذه العقائد الأيدلوجية فيسلم لها عقله وفكره. هذا الاستسلام الفكري والعقلي هو عبودية محضة قد يمنحها مجتمع ما لشخص حقيقي أو اعتباري - كمنظمة أو مؤسسة - تحت أنواع منوعة من التأويلات والمسميات. كل مجتمع يزعم أن له خاصية تجعل منه مختلفا عن المجتمعات الأخرى وأنه على حق وأن الآخرين على باطل. ولو تأملت هذه المجتمعات في حالها لتبين لها أنها وإن اختلفت ظاهريا وصوريا، فإن الجامع الذي يجمع بينها جميعا بلا استثناء هو التخلف الفكري والحضاري. وهذه نتيجة منطقية حتمية لا مناص منها عندما تُختزل أفكار وعقول مجتمع بأكمله في شخص أو مجموعة أشخاص سواء أكانوا أمواتا أم أحياء لبسوا لباس الأموات. ومعنى ما مضى شاهده في قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِن دُونِ اللّهِ} لذا فمحاربة هذا النوع من العبودية هو أصل دعوة الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام.
عبر التاريخ وتحت مظلة الأيدلوجيات، تكونت مذاهب متعددة وفرق متنوعة انبثقت عنها مؤسسات أو تنظيمات أو هيئات يجمع بينها على اختلافها وعدائها لبعضها البعض مبدأ إبعاد كل مخالف وتقريب كل موافق. هذا المبدأ وإن بدا لقصير النظر أنه ضمان لاستمرارية المؤسسة أو المنظمة في فرض نفوذها واعتقاداتها على مجتمعاتها، إلا أن العقل - مؤيد بشواهد التاريخ - يثبت بأن هذا المبدأ كان وما يزال سوسة نخر تنخر قواعد المنظمة ومعول هدم يهدم أركانها. فالموافق هو سم زعاف يمنع تجدد الخلايا فيقتل المنظمة بهدوء وسلاسة، بينما المخالف هو الحمى التي تقاوم الأمراض وتجدد الخلايا فتحيا بذلك المنظمة.
لو تأملنا التاريخ عبر دهوره أينما كانت أرضه لوجدنا أن أي مؤسسة عقائدية سواء أكانت على حق أم على باطل تقوم عادة على يد رجل عظيم يكمن سر عظمته في تحرر فكره ظاهرا وباطنا، سرا وعلانية من قيود أفكار قومه ومن أغلال عاداتهم وأعرافهم. ويمضي الزمان ويذهب العظيم ويأتي الأوفياء له، حملة فكره من بعده، فيتجمدون فكريا بحجة قدسية النصوص، فيُبعدون عنهم من أجل ذلك كل من خالفهم ولو كان عبقريا محبا مشفقا ويستبدلونه بالموافق ولو كان أصما أبكما بليدا، وتلجأ المنظمة خلال فترة اكتمال نفوذها وهيمنتها إلى تسليط سيف الأيدلوجية على رقاب المجتمع من أجل إرهاب المخالف فتخلو المنظمة تدريجيا من المفكرين الأحرار فتضعف بذلك قدرتها على إدراك الأمور واللحاق بالمتغيرات فيتعداها الزمان ويملها المكان حتى تصل إلى خط لا رجعة معه، فتصبح خبرا يروى ومثلا يتلى ثم سرعان ما تنسى في طيات التاريخ.
إن مما سكت عنه أن ما مضى رواية معروفة وقصة مألوفة لا جديد فيها، وما هي إلا ذكرى للمحب الواله وللعاشق المتيم «وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين».