حينما يصار إلى إقرار إنشاء هيئة ما، يكون ذلك بسبب إما عدم قدرة الجهة المعنية بالقيام بمهامها على الوجه المطلوب أو أن يكون هناك رغبة في إبراز جانب معين من ضمن تلك المهام أو إلقاء وتسليط الضوء على الدور الذي ينبغي لتلك الإدارة أن تلعبه ومن ثم يصار إلى تحويلها إلى هيئة.
قد بينت سابقاً وجهة نظر شخصية في هذا الجانب حينما ذكرت أنه إن كان هناك ثمة سبب قوي يبرر قيام هيئة ما، فليتم بحث الحاجات الملحة التي تتطلب إفراد جهة واحدة تكون مسئولة عن لعب دور معين ضمن فترة زمنية محددة يتم تمديدها بشكل مستمر في ظل استمرار الحاجة لها وتكون مرجعيتها في الغالب سلطة أعلى من الوزارة التي انبثقت من رحمها، ذلك لتعزيزها وتقوية دورها ومنحها مزيداً من الثقل والصلاحيات، الأمر الذي يهيئ أيضاً متابعة مباشرة وفورية من قبل تلك السلطة.
أتفهم تماماً وجود الحاجة لإنشاء هيئة ما في ظل غياب جهاز حكومي رسمي على مستوى وزارة يناط به الاهتمام بشأن معين كإنشاء الهيئة العامة للسياحة والآثار في ظل غياب وزارة للسياحة، لكن ما لا أفهمه هو النزعة المستمرة والهاجس الملح الدائم بضرورة قيام هيئات لها صفات اعتبارية مستقلة في ظل وجود وزارات معنية بذات الشأن وعليها حمل ذات الأعباء والمهام والمسئوليات بل الأدهى والأنكى من ذلك أن تحمل تلك الهيئات ذات المسميات مع تعديلات بسيطة في بعضها، فكثير من الهيئات اليوم خرجت من وزارات أو ينبغي أن تكون تابعة لوزارات قائمة مثل هيئة النقل البري وهيئة تنظيم الكهرباء وهيئة سوق المال والهيئة العامة للغذاء والدواء وهيئة الاستثمار والهيئة العامة للطيران المدني وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والهيئة العامة للمواصفات والمقاييس والجودة والهيئة السعودية للتخصصات الطبية والهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض وهيئة الاتصالات وهيئة الأرصاد الجوية وهيئة التحقيق والادعاء العام والهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها وكثير غيرها من الهيئات الأخرى التي تم تشكيلها بغية تحقيق هدف محدد أما تطوير الأداء في جانب ما أو تحقيق استثمار في جانب آخر أو تسليط الضوء على جانب ثالث، وذلك بخلاف عدد من الهيئات التي أصبح وجودها يمثل خلط واضح بين الهيئات في طبيعة الأدوار المناط بها من خلال تماثل مسمياتها كالهيئة السعودية للمهندسين والهيئة السعودية للمحاسبين، فلا يمكن مثلاً أن يكون دور الهيئة الملكية للجبيل وينبع كدور الهيئة السعودية للمهندسين، ولا ينبغي مقارنة هيئة حقوق الإنسان مع الهيئة السعودية للمحاسبين القانونين.
جُل الهيئات أو لنقل معظمها خرج من وزارات قائمة لها كياناتها وشخصياتها الاعتبارية وبداخلها وكالات تقوم بلعب الدور المراد كل في مجاله وليعد القارئ الكريم للهيئات الموجودة أو تلك التي تم إنشاؤها -مؤخراً- ليعلم أنها كانت فعلاً وكالات لوزارات قائمة تم فصلها بشكل كامل وبشخصية مستقلة عن الوزارة التي كانت تتبعها وتستظل بظلها وتسير ضمن توجهاتها ورؤاها وتستمد منها قوتها.
وإذا كانت تلك الهيئات قد تم إنشاؤها لتفعيل الدور المناط بها وإخراج ما يراد منها من نتائج إيجابية كان يُفترض أن يكون ذلك وهي وكالة تابعة لوزارة، فهذا بلا شك يقودنا دون تفكير إلى القول بأن وجودها كوكالة داخل وزارة لم يكن فاعلاً وقد لا يكون للهيكلة دور في ذلك، بل ربما كان سبب عدم ظهور الدور المأمول من تلك الوكالة هو، إما القائمون عليها أو التوجه العام للوزارة الذي تسير على خطاه تلك الوكالة، ما حدا بولي الأمر لإفرادها بصفة مستقلة لمنحها حرية أكبر ومساحة أوسع للتحرك، وإلا لما تم جلب أشخاص آخرين لتولي تلك المهمة، وهي المهمة ذاتها التي كان يراد لها أن تقوم بها أثناء هيئتها السابقة في وزارتها.
أعلم تماماً أن الهيئة التي يتم إنشاؤها، يجب أن تقوم بلعب دور معين في فترة زمنية محددة يتم تجديد مدة وجودها إن لم يسعفها الوقت لقضاء المهام المناط بها إنجازها، يتم بعد ذلك حلها وإعادة ربطها من جديد بالجهة التي كانت تتبعها قبل إفرادها بشخصية مستقلة، هيئة تقوم بتفعيل الدور المرجو من الجهة التي كانت تجثم على المهمة الأساس دون تحريكها ودون إبراز نتائج إيجابية لها حتى لا يتشكل لدينا مع الأيام خط آخر من المنظومة الحكومية التي يراد لها تحقيق الأهداف المرجوة فيكون لدينا وزارات وفي الوقت ذاته هيئات أو مؤسسات حكومية على ذات الخط.
وعلى ضوء ما ذكر سابقاً من وصف للهيئة والحاجة لإنشائها فقد نكون أحوج ما نكون في هذه الأيام لقيام هيئة خاصة بالعمل، هيئة تقوم بلعب دور فاعل ومهم في تأمين التوظيف المطلوب والتوطين المنشود، هيئة تؤّمن لم شمل جميع الأذرعة الحالية لوزارة العمل، هيئة تكون مرجعيتها أعلى سلطة سياسية في البلاد لضمان تحقيقها للأغراض والغايات والأهداف التي أُوجدت من أجلها، هيئة يوفر وجودها الوقت اللازم لقيام وزارة العمل بالدور الأساس لها.. هيئة يمكن لها أن تُحدث فارقاً في عملية القضاء على البطالة أو تخفيفها على أقل تقدير.. هيئة تكون منفصلة تماماً عن وزارة العمل ومرتبطة بجهة أكبر من الوزارة لضمان مدها بالقوة الكافية إن أردنا فعلاً تحقيق إنجاز للوطن، هيئة تقوم بتنظيم الجهد الذي يبذل من جميع تلك القطاعات سابقة الذكر وتوحيد سياساتها ووضع أهدافها وتحديد أزمنة تحقيق تلك الأهداف التي تؤدي إلى نتيجة واحدة هي توظيف الشباب وتوطين الوظائف والقضاء على البطالة المتنامية.
إلى لقاء قادم إن كتب الله.