علم من أعلام الإسلام، ونابغة من نوادر النّابغين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن علماء الأمة في صدر الإسلام، قال عنه الليث بن سعد ويحيى بن سعيد، ما رؤي أحد أفطن من ربيعة، وهو صاحب المعضلات، وعالم المدينة
بلا منازع، وأفضل من جلس للقضاء والفتيا في المدينة المنورة وهو لا يزال في ريعان الشّباب. وهو شيخ لكبار علماء عصره، فقد تتلمذ عليه الإمام مالك بن أنس، الذي ينسب إليه المذهب المالكيّ وأخذ عنه الإمام أبو حنيفة، وغيرهما من علماء السّلف.
روى الخطيب البغداديّ في كتابه تاريخ بغداد، نادرة عنه وعن أبيه «فروّخ» بسند إلى مشيخة المدينة أنَّ فروّخاً أبا عبد الرحمن أبو ربيعة هذا، خرج مجاهداً في سبيل الله في البعوث إلى خراسان أيام بني أميّة غازياً، وربيعة حَمْل في بطن أمِّه، وخلّف عند زوجته - أم ربيعة - ثلاثين ألف دينار.
فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرساً، وفي يده رمح، فنزل عن فرسه، ثم دفع الباب برمحه، فخرج إليه ابنه ربيعة. وكلٌّ منهما لا يعرف الآخر لأن ربيعة ولد في غيبة أبيه، وقال له: يا عدوّ الله أتهجم على منزلي؟ فقال فروّخ لا. ثم قال: يا عدو الله أنت رجل دخلت بيتي وعلى حُرْمَتي.
فتواثبا وتلبَّب كلٌّ منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران، فبلغ مالك بن أنس والمشيخة ما حصل، فأتوا يعينون شيخهم ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان، وجعل فروخ يقول والله لا فارقتك إلا بالسلطان، وأنت مع امرأتي وفي بيتي وكثر الضّجيج فلمَّا بَصَرُوا بمالك سكت النّاس كلّهم فقال مالك: أيُّها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ هي داري وأنا فروّخ، مولى بني فلان، فسمعتْ امرأته كلامه فخرجت، فقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلّفته وأنا حامل به. فاعتنقا جميعاً وبكيا، فدخل فروّخ المنزل، بعد أنْ انْصَرَف الناس، وقال لزوجته، هذا ابني؟ قالت: نعم، قال: فأخرجي المال الذي لي عندك، وهذه معي أربعة آلاف دينار، فقالت: المال قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام.
فخرج ربيعة إلى المسجد - مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وجلس في حَلْقَتِه، وأتاه مالك، والحسن بن زيد، وابن أبي علي اللهيبي، والمساحقي، وأشراف المدينة وأحاط الناس به.
فقالت امرأة فروّخ: أخرج صلِّ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تريده أن يرى منزلة ابنها، من دون أن تشعره بشيء فخرج فصلى ونظر إلى حلقة وافرة، فأتى إليها ووقف عليها، ففرّجوا له قليلاً، ونكس ربيعة رأسه، ليوهمه أنه لم يره، وعليه طويلة - نوع من اللباس يغطَّى به الرأس -.
فشك فيه أبو عبد الرحمن فروّخ فقال: من هذا الرجل؟ فقالوا له: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال أبو عبد الرحمن: لقد رفع الله ابني، فرجع إلى منزله فقال لزوجته والدة ابنه لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أم ربيعة أيما أحب إليك ثلاثون ألف دينار، أو هذا الذي هو فيه من الجاه؟
قال: لا والله، إلاّ هذا قالت: فإني قد أنفقت المال كله عليه، قال فوالله ما ضيعته (8: 421 - 422).
وعن مكانته العلمية قال: بعد إيراده بالسند إلى يونس بن يزيد: رأيت أبا حنيفة عند ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وكان مجهود أبي حنيفة: أن يفهم ما يقول ربيعة، وحدّث ابن زيد أيضاً قال: مكث ربيعة بن أبي عبد الرحمن دهراً طويلا، عابدا يصلي الليل والنهار، صاحب عبادة، ثم نزع ذلك إلى أن جالس القوم فجالس القاسم بن محمد، فنطق بلب وعقل، قال: فكان القاسم إذا سُئل عن شيء، قال: سلوا هذا - يعني ربيعة - قال: فإن كان شيئاً في كتاب الله أخبرهم به القاسم أو في سنة نبيه، وإلا قال: سلوا هذا - الربيعة أو سالم -.
وقال الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد، قال: قال لي: ما رأيت أحداً أفطن من ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وقال الليث قال لي ابن عمر في ربيعة، هو صاحب معضلاتنا وعالمنا وأفضلنا.
ولقد وفق الله أم ربيعة الرأي، حسب الواقعة التي حرصت فيها على الإنفاق على ابنها ربيعة، لما وجدت فيه حُباً للصلاة والعبادة في مبدأ حياته، فاهتمت بحسن التربية، وهي تمثِّل الأم في مجتمع الإسلام، باختيار الدرب الأمثل لابنها، وهو طريق العلم ومآخذه الحسنة، وما أجدرنا بالحذو على منوالها، وما أحرى بالأمهات أن يسلكن نهج أم ربيعة الرأي، في الصبر وحسن الرعاية، والصدق مع الله في النفس أولاً والاستعانة بالله في تربية الولد، وبنية مخلصة ثانياً.
وقد اشتهر ربيعة بالذكاء والقول بالرأي، ولذا سُمي ربيعة الرأي، فكان مفتي المدينة في وقته، وعالم الوقت، قال الذهبي: إنه روى عن أنس بن مالك والسائب بن يزيد، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن يسار، والقاسم بن محمد، وسليمان بن يسار وسالم بن عبد الله وغيرهم من كبار التابعين، وأخذ عنه خلق كثير من العلماء كسليمان التيمي، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة، والليث بن سعد، ومِسْعَر وابن المبارك، وسفيان بن عيينة وخلق من مشاهير العلماء.
قال ابن عيينة: بكى ربيعة يوماً، فقيل ما يبكيك؟ قال: رياء حاضر، وشهوة خفية، والناس عند علمائهم كصبيان في حجور أمهاتهم، إن أمروهم ائتمروا، وإن نهوهم انتهوا؟ وهذا من مخافته رحمه الله من الرياء، والتعاظم ومن زلة العالم والعُجب بالنفس، وهذا من ورعه أيضاً ومخافته من زلة العالم.
وقال مالك: كان ربيعة يقول لابن شهاب: إن حالي ليست تشبه حالك، قال: وكيف؟ قال: أنا أقول برأيي من شاء أخذه، ومن شاء تركه، وأنت تقول في حديثك عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحفظه.
وقال أحمد بن عبد الله العجلي في تاريخه: حدثني أبي قال: قال ربيعة: وسُئل كيف استوى؟: فقال الكيف غير معقول وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق. وصح عن ربيعة قوله: العلم وسيلة إلى كل فضيلة. وقال من زهده وورعه كما قال مالك: أن ربيعة قدم على أمير المؤمنين فأمر له بجارية، فأبى فأعطاه خمسة آلاف دينار ليشتري بها جارية فأبى أن يقبلها.
وقد كان كريما، سخي اليد في النفقة على إخوانه من طلبة العلم، فقد قال ابن وهب: أنفق ربيعة على إخوانه أربعين ألف دينار، ثم جعل يسأل إخوانه في إخوانه.
ومع ذلك فقد أوذي في نفسه، فقد قال مطرف عن ابن أخي ابن هرمز، قال: رأيت ربيعة، جُلد وحُلق رأسه، ولحيته، قال إبراهيم بن المنذر، كان سبب ذلك شكاية أبي الزناد به.. ولعل هذا من تحاسد العلماء.
قال فيه ابن شيبة: ثقة ثبْت، أحد مفتي المدينة.
أما مصعب الزبيري فقال عنه: كان يقال له: ربيعة الرأي، وكان صاحب الفتوى بالمدينة، وكان يجلس إليه وجوه الناس، وكان يُحصى في مجلسه العلمي أربعون معتّماً وعنه أخذ مالك بن أنس.
ونقل الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد قال: ما رأيت أحداً أفطن من ربيعة بن أبي عبد الرحمن.
أما يحيى بن سعيد وهو محدث، فكان يجالس ربيعة، فإذا غاب ربيعة حدثهم أحسن الحديث، وكان كثير الحديث، فإذا حضر ربيعة، كفّ يحيى إجلالاً له، وليس ربيعة أسنَّ منه، وهو فيما هو فيه، وكان كل واحد منهما مبجِّلاً لصاحبه.
وحدث معاذ بن معاذ، عن سوّار القاضي بن عبد الله العنبري قال: ما رأيت أحداً أعلم من ربيعة الرأي قلت: ولا الحسن وابن سيرين؟ قال ولا الحسن ولا ابن سيرين.
أما ابن وهب فحدث عن عبد العزيز بن أبي سلمة، قال: لما جئت للعراق، جاءني أهل العراق فقالوا: حدثنا عن ربيعة الرأي، فقلت: يا أهل العراق، تقولون ربيعة الرأي، والله ما رأيت أحداً أحفظ منه للسنة.
ثم حدث ابن وهب عن ابن زيد قال: صار ربيعة إلى فقه وفضل، وما بالمدينة رجل أسخى بما في يديه لصديق ولا لابن صديق أو لباغ يبتغيه منه، كان يستصحبه القوم، فيأبى صحبة أحد إلا أحد لا يتزوّد معه، ولم يكن في يده ما يحمل ذلك.
رحم الله العلماء، ما كان أحرصهم على طلب العلم وأزهدهم في الدنيا، وأسخاهم في البذل والتشجيع على طلب العلم ونفع الناس.