تعود بي الذاكرة إلى سنين خلت حين كنت صغيرا وكنا من العائلات الميسورة نوعا ما حيث إننا امتلكنا جهاز تلفاز ملون في العام 1980 وكنا نشاهد ثلاث أو أربع قنوات عربية شتاء وربما يزيد العدد إلى 7 قنوات صيفا بحكم التكنولوجيا والجغرافيا في تلك الحقبة.
في ذلك الزمان كنا نستمتع بمشاهدة الكرتون الساعة الثالثة والربع على قناة الأردن الأولى وذلك بعد قراءة لما تيسر من القرآن. في ذلك الزمن كنا نشاهد أيضاً المسلسل العربي على التلفزيون الأردني بعد أخبار الثامنة مساء وكنا ندعو الله أن لا تطول نشرة الأخبار حتى نستطيع مشاهدة المسلسل قبل موعد النوم.
من أهم ما التصق بذاكرتي في تلك الأيام أيضاً هو صوت فيروز يشدو في الصباح من مذياع سيارة والدي ونحن في الطريق إلى المدرسة (أعطني الناي، آخر أيام الصيفية، القدس العتيقه، عودك رنان، ...إلخ). لم أكن في تلك السنين أهتم لمظهر فيروز أو ماذا كانت تلبس أو كيف كانت ترقص بقدر ما كنت أعشق صوتها وأهتم لسماعه في ساعات الصباح.
أعادنا الرحابنة والمخرج المتميز حاتم علي إلى ذلك الزمن الجميل من خلال فيلم سيلينا الرحباني بامتياز. لقد أحببت الفيلم وشدني إليه الكثير من المعاني الجميلة التي حملها، فعلا كنا بحاجة في هذه الفترة وبعد هذا الغياب الطويل للمسرحيات الرحبانية الزاخرة بالموسيقى الغنائية الاستعراضية والتشكيل البصري الرائع الذي ينقل المشاهد إلى عوالم الحكايات والأساطير ويقدم أطروحة سياسية ثقافية واجتماعية ناعمة تدغدغ الأذن وتداعب العواطف دون أن تثير النزعات والغرائز. الصوت الجميل المتمثل بمريام فارس وتلك النخبة من عمالقة الفن والتمثيل من أمثال الدكتور دريد لحام، أنطوان كرباج، حسام تحسين بيك، أيمن رضا وغيرهم صعدوا بهذا العمل لدرجة الامتياز.
من المعاني التي حملها الفيلم هو أن حياة الشقاء والبساطة حتى لشحاد قد تكون أجمل من حياة الرفاهيه لملوك وأمراء، فالشحاد حر طليق أما الحاكم فهو أسير الكرسي ولكن هناك معانٍ أخرى أهم بكثير حملها الفيلم ومنها:
أولا: مريام فارس التي لم تكن هنا نجمة استعراض ولم تلبس ما يصف الجسد ولم ترقص رقصا مثيرا بل كانت طفلة جميلة أو فتاة بسيطة تشدو بصوت جميل وتتحرك باتزان جعل كفة هذا العمل مقارنة بأعمالها الأخرى ترجح في الميزان. ولعل المقارنة غير المنصفة بينها وبين السيدة فيروز خرجت عن إطارها الصحيح فلا يجوز أن نقارن بين طعم التفاح وطعم البرتقال فكلاهما يتشابهان في كونهما من الفواكه ولكن كلاهما يختلف في الطعم.
ثانيا: هذا الحضور للعدد الكبير من الفنانين ممثلين وغيرهم جعل هذا العمل مميزا فالكل كان نجما والكل كان مبدعا فأنا لم أعجب يوما بصوت الفنان أيمن رضا (قائد الحرس) إلا أن صوته كان جميلا هذه المرة، أيضاً إيلي شويري (الأب) وضع بصمة جميلة جدا على العمل، فهذا العمل ألغى البطولة المطلقة وأعطى الكل حقه في إظهار إبداعه بأسلوب مميز.
ثالثا: نحن بحاجه إلى أعمال جميلة بعيدة عن الابتذال تعبر عن نبض الشارع دون إرهاق المشاهد بالهموم أو إثارة غرائزه، أعمال كهذه تمثل نبض ثقافتنا وحضارتنا الجميلة وتعيدنا إلى أيام الزمن الجميل ليس زمن طفولتي فحسب بل لربما زمن الأندلس.
لم تستطع مئات المحطات الفضائية وآلاف الفيديو كليبات إقناع المشاهد بأن هذا الزمن أجمل، بل إن الكثير منا أصبح يخشى على أطفاله حين يقلبون المحطات الفضائية، فلم يعد هناك انضباط وأصبحنا نتنافس في نقل وتبني ثقافات اصطناعية ونحن أقدر على تصدير ثقافتنا الجميلة الغزيرة والأصيلة.
سيلينا عمل مميز استحق عليه الرحابنة وحاتم علي الشكر والتقدير، ربما افتقر العمل إلى بعض مشاهد الطبيعة وغيرها إلا أنني أنتظر عملا كما عودنا حاتم علي يبدأ بصلاح الدين ولا ينتهي بالملك فاروق وسيلينا.
(*) muabusalah@gmail.com