الأطروحات الفكرية التي تتناول حقيقة (الليبرالية) في المجتمع السعودي، سواء في الكتابات الصحافية التي قرأتها، أو المشاركات التلفزيونية التي شاهدتها، أو المناسبات الثقافية التي حضرتها،
يمكن القول إنها محاولات نخبوية لتسويق (الفكرة الليبرالية) في مجتمع ما زال يرفضها أو على الأقل يتوجس منها. ذلك التسويق يتم من خلال مزج الفكرة الليبرالية بالحالة الإسلامية على مستوى (القيم الإنسانية) من حرية وعدالة ومساواة وغير ذلك، كي يتقبل المجتمع المحافظ هذه الفكرة (الوافدة) ويثق بدورها الحضاري في نهضة البلد والأمة ككل، كي لا تقع أيضاً فريسة (الموقف الديني) الذي نجح في جعل العلمانية (تهمة) اجتماعية يفر منها العلمانيون قبل غيرهم - وهنا المفارقة - لدرجة أن (المثقف السعودي) صار يقاتل لإثبات خلو فكره من أية شوائب علمانية رغم أنه ينطق ببعضها دون أن يدري!
أدعياء الليبرالية السعودية فطنوا لهذا الحرج الاجتماعي، الذي قد يقلب طرحهم الإعلامي أو يعترض طريقهم الثقافي في بث الدعاية الحضارية عن (الفكرة الليبرالية)، فوجدوا أن أسلم الحلول يكمن في مزج أو موائمة الفكرة الليبرالية بالفكرة الإسلامية، خاصة ً في ظل سيطرة الفكر المحافظ (السائد)، الذي يستمد قوته الإقناعية من المنطلقات الأساسية للدين الإسلامي أو الخصوصيات الثقافية للبلد، ناهيك عن جهل كثير من الناس بمصطلح (الليبرالية) أصلا، فكان من السهل تصويرها بشكل إيجابي على أنها مجرد (وسيلة حضارية) للحياة المدنية، فلا تتعدى الدين أو تعارض ثوابته أو تخدش قدسيته، إنما ترنو إلى تحقيق الحرية على المستوى الاجتماعي، شأنها شأن (الديمقراطية) على المستوى السياسي.
هذا الحل الفكري الذي ابتكره المثقف السعودي الذي يدعي الليبرالية لا يعكس جهله بحقيقتها وتاريخها فحسب، إنما يعكس واقع (الأمية الفكرية) التي يعاني منها كثير من الليبراليين السعوديين وهم في حقيقتهم (أدعياء)، لأن كل المعلومات والمعارف المتعلقة بالليبرالية موجودة بين أيديهم ولكن لا يحسنون التعامل معها، أو بالأصح فهمها، فإذا كانت الأمية العلمية تعني عدم الإلمام بالقراءة والكتابة في مجتمع متعلم، ثم تطورت إلى عدم التعامل مع الحاسب الآلي لأنه لغة العصر وعصب العلم في مجتمع إلكتروني، فإن الأمية الفكرية هي عدم فهم المصطلحات الفكرية وفق الوعي ب(علاقة المصطلح في الظرف التاريخي) في مجتمع معرفي، أي من خلال قراءة (النشأة) واستيعاب (المضمون) في الإطار الحضاري الذي أنجز فيه، سواءً كان المصطلح غربياً أو شرقياً أو إسلامياً أو غير ذلك، لأن المضمون يحدد فكرة المصطلح ومفاهيمه ومن ثم تطبيقاته، والنشأة تحدد الأبعاد التاريخية التي توضح الظروف والأحداث التي أفرزته للواقع.
وفي حالة (الليبرالية) لم يتعامل من يرون أنفسهم ليبراليون سعوديون بهذه المنهجية، فكانت أميتهم (الصغرى) في عدم فهم المضمون الفكري لليبرالية، ما أدى إلى أميتهم (الكبرى) في عدم استيعاب البعد الحضاري لهذا الفكر الغربي الذي أمسى الأنموذج الفعلي للحضارة الغربية، وانعكاسه السلبي على الواقع الإسلامي ككل بمجتمعاته المتنوعة ودوله المختلفة التي تعبر عنها هوية دينية واحدة وتربطها قيم إسلامية مشتركة. فالليبرالية هي أعظم ما توصلت إليه العقلية الغربية خلال عصور النهضة الأوروبية، بل هي ثمرة (عصر التنوير) الذي أعلى من شأن (العقل) على حساب كل مصادر المعرفة وأولها الدين. من هنا نلمس أول ملامح التعارض بين الفكرة الليبرالية والفكرة الإسلامية وهو تعرض جلي يحاول أن يتعامى عنه مسوقي التبعية الغربية، بل يتبين أن الليبرالية التي يعتقدها البعض (آلية) عمل أو (وسيلة) حضارية، إنما هي (أيديولوجيا) لها أساس فلسفي يقوم على (تحقيق الحرية الفردية) عبر الاستقلال بالرأي وحق الاختيار وحرية الممارسة، ولها بناء فكري يقوم على الرأسمالية في الجانب الاقتصادي، والديمقراطية في الجانب السياسي، والعلمانية في الجانب الاجتماعي، كما لها سقف حضاري يتمثل في مرجعية بشرية هي (العقل) المهيمن على كل شؤون الحياة، من خلال صياغة القوانين والتشريعات التي تتجاوز الدين والعادات والتقاليد الاجتماعية، وتعمل في إطار دستور وضعي مرجعيته الشعب أو بالأصح (صندوق الانتخاب).
إذاً بالمحصلة النهائية فإن قبول (الليبرالية) فكراً حضارياً وممارستها سلوكاً اجتماعياً وتطبيقها منهجاً حياتياً، يعني بجلاء (استبعاد) الإسلام من كونه (منهاج حياة ومرجعية حضارة) وحصره في إطار الدين فقط، وهنا تنتهي حدود (الأمية الفكرية) وتتضح خطورتها، هذه الأمية التي كانت وصفاً بالأمس (للمسلسلات البدوية) على لسان إحدى الشخصيات الليبرالية عندما كانت التلفزيونات الحكومية تتسابق على عرضها قبل قدوم القنوات الفضائية، دون تدري تلك الشخصية أنها ستكون وصفاً أدق للمراهقات الفكرية لدى أدعياء الليبرالية اليوم.
Kanaan999@hotmail.com