ابتداء:
(تلحفت بالأرض والغيمة المنتقاة، وسافرت من كل فجر ومن كل حبر ومن كل صبر ومن كل عذر، وكنت الوفي الخفي المكون من ذكريات وملح).
(نايف الجهني)
قبل أن نمضي وقبل أن تجيء.. قبل أن تسير الأقدام خطوة وقبل أن تعانق الخطى التراب.. قبل أن يودع الفجر سواد الليل.. أيقظ فينا صقيع الشتاء نبض استكان خلف لحاف الدفء وحمرة الجمر.
* في أول يوم من شتاء مضى أيقظ حضورها فيّ شهوة الاحتفاظ بالأشياء كي أستنشق مما تركته لي نبضا يجدد فيّ ما تبلد.. ما قد فقدته من وهج.. حضور. أدركتُ أنني مهما تزودت منها لا يكفي لأقتات منه يوماً واحداً.
العمر واحد.. ولن يكون أكثر.. والرحيل.. هو رحيل نهائي ولا غيره رحيل.. والفقد يوجع حين يكون لمن فقدت حضور كبير.. احتل كل مساحات قلبك ووجدانك.
في أحيان كثيرة.. يكون الحوار سائداً.. الوعي بواقع نسكنه.. بظرف يحيطنا.. والحديث يرقى بفهمنا.. نستوعب.. أحدنا يملك ناصية الحديث والآخر يستمع بعمق.. يغوص.. يمحص ويتفحص.. نكون نقاط التقاء.. تتفق آراؤنا عليها.. هذه اللغة جسرت الكثير.. كان الوضوح سمة غالبة مغلبة والثقة تسود على ما سواها.
قلت لها لن أرحل.. لن أبتعد. فقالت هي.. وأنا أيضا لن أرحل.. لم تكتفِ بهذا الجواب؛ بل سألتني: يا هذا. أي رحيل تحدثك نفسك عنه؟؟؟ وأي بُعدٍ تقصد؟؟؟
صمتُّ.. حاولت أن أتناسى السؤال.. ولكنها أعادته مرة أخرى.. اضطررت إلى أن أجيبها باختصار.. قائلاً: لا يذهب بالك بعيدا.. إنه رحيل.. ابتعاد آخر غير الذي رمع له قلبك.. وامتعضت منه..
خطت صوب رحلتها.. نحو مرفأ جديد.. حلم يتجسد.. طال انتظارها له.. ها هو يتحقق.. رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.. والخطوة الأولى تجسدت.. كي تحلق في فضاء يتسع للكل.. وتحقق ما حلمت به بعد صبر.
تأملت سيرها.. خطوة خطوة.. بين المكان والمكان.. في غفلة من الآخرين، وكأن كل خطوة منها تقول: هيا معي.. سنكون معا، سنمضي قدما سوية من هذا المكان.. إلى أن يمضي كل شيء إلى انتهاء..
تسمرت خطاي.. توقفت.. كثيرون يتحلقون حولي.. لكنني لا أرى سواها.
الفراق مؤلم، لكنه فراق لا يتكرر.. حين يحتضن الجثمان التراب.. يكون الفراق الأبدي.. لكنك في لحظات تشعر بالفقد وأنت تودع من تحب في رحلة سفر.. قد تقصر.. قد تطول، لكنها صورة تستفز فيك سحب الدمع.. تستمطرك اللوحة وأنت تلوح بقلبك لا بيدك.. بمشاعرك لا بكلماتك.. بآهات معجونة بعبرات وزفرات تهتز منها فرائصك.. تلوح الدموع على أهدابك.. تتكئ على رمشك.. لا تقوى عليها.. إنها مشاعر أقوى من إرادتك.
ودعتك.. بلوعة المحب.. وبسعادة الفرح لكِ؛ لأنكِ ستكونين في حضرة محفل.. في حضور لافت. مطمئنٌ أنا لقدراتك.. وحضورك وقدرتك على أن تكوني رقما مهما.. صوتا يشد من يصغي لنبرة الثقة.. وتستدير الرقاب لهذا الصوت القادم من شمال القلب.. عندها أطلقت ابتسامة علَّها تخفف أوار نار اشتعلت..
قد أدركتْ لحظتها.. ذلك القدر الذي تحظى به.. وذاك الشعور غير العادي الذي تملكته فيّ.. وما أغدقه عليها..
لم تكن تدرك!!!.. لا أظن ذلك.. بل أجزم بأنها تعي لكنها تخفي عني كل شعور.
قلت لها ذات يوم: أخشى أن أضيع منك أو تضيعين مني.. تفقديني أو أفقدك.. في لحظات من حنق.. من استثارة أعصاب.. من.. ضحكتْ من قولي.. بل سخرت مما قلت.. إنها على يقين.. ثقة.. طمأنينة.. إنها قرأتني... فهمتني جيداً.. ولهذا جاءت الثقة مبنية.. مؤسسة..
حين تحملنا الأيام.. سيعرف كل منا مقدار الآخر.. مكانته ومكانه.
قد تجاوزنا أياما.. خرجنا من عنق الزجاجة.. تجاوزنا الكثير من المنعطفات.. المنزلقات.. قفزنا فوق الأشواك.. أشحنا عن كثير من المنغصات.. بإصرار.. بقناعة منا.. بثقة متناهية.
في يوم ما.. أدركتْ... وفي لحظات ما.. عرفتْ ذلك الذي أخفيه. وسيجيء يوم تعيد فيه قراءة ما خطه قلبي.. وما لفظه لساني.
سيأتي يوم أبصّرك بما عنيته من الرحيل.. عندها أقبّل فيك قدرتك على التحمل.. صبرك علي.. واقتناعك وقناعتك بحقيقة (أن صديقك من صدقك.. لا من صدّقك). عندها يحق لي أن أطلب منك التخلي عن كل ما يعتريك.
ستعرفين الكثير، وستدركين أن القلوب التي تحب.. يحزنها سقوط دمعة.. اجتراح آهة تخفي وراءها حرمانا بعمرك.. وعطشا بقدر ظلمك. حين نطوح بأيام أُخر من أعمارنا ستنقشين من اسمي قلادة تتأملين تفاصيلها كل حين..
أعرف أنك لن ترحلي.. لن تغادري وكنا بنيته لك وحدك.. وأعرف أنني لن أبرح نبضك، وحضوري سيكون في كل زواياك..
أنفاسك.. طيوبك.. وصورك حاضرة في كل محافلي.. وطني.. مدينتي أنت.. سكني.. وحضوري، وأنتِ باقية بقاء الأرض.. بقاء القلوب عامرة بالحب.. دعينا نخرج في فضاء لا يفصلنا فيه عن بعضنا أسوار وحواجز.. لنخرج من دوائر الأقواس وأحرف وجمل تتعقبها علامات التعجب والاستفهام.
أنت زغرودة تسبق احتفاليتنا.. ترنيمة عشق وبحة ناي تتقافز على أنغامها شحارير الروض طربة فرحة.. ربيع أرض وخضرة قلب... وهتان مزن يسقي أرضاً متصحرة أعاد لها ديمك نضارتها ونماءها.