قد لا نجانب الحقيقة عندما نقول إن علم الاقتصاد هو أقرب العلوم الإنسانية تعاملاً مع الواقع رغم أن نظرياته تحاول أن تصل بالفرد والمجتمع إلى الوضع، أو الحل، الأمثل. ويعبِّر الاقتصاديون عن الوضع الأمثل بتلك الحالة التي يتمكن عندها الاقتصاد من استغلال موارده الاقتصادية المتاحة الاستغلال الأمثل في مرحلة التوظيف الكامل لعناصر الإنتاج. وبهذا النهج يتعامل علم الاقتصاد مع الواقع متطلِّعاً إلى الوضع الأمثل كهدف يسعى إلى تحقيقه بآليَّات الاقتصاد وأدواته المتعدِّدة. ويعكس هذا التعامل نهج علم الاقتصاد في التعامل مع الإنسان ككائن بشري ميَّزه الله عن بقية مخلوقاته وكرَّمه بالعقل. ويفترضُ الاقتصاديون أن يتصرَّف الإنسان وفق هذا التميُّز، فيفضل الحالة (أ) على الحالة (ب) إذا كانت الأولى تُحقِّق له الوضع الأمثل. ويجسِّد هذا التميُّز فطرة إنسانية عبَّر عنها عرَّاب علم الاقتصاد الأول آدم سميث في نظريته العامة باليد الخفية التي تعمل لتحقيق مصلحة المجتمع، والاقتصاد بالضرورة، عبر تحقيق مصلحة الفرد. وذكر الاقتصادي الإيطالي باريتو أن الوضع، أو الحل، الأمثل يتحقَّق عندما تسود الحالة الاجتماعية التي تكفل للفرد وضعاً أفضل دون أن تكون على حساب أو مضرَّة فرد آخر في المجتمع. فإذا تحصل (أ) على ميزة معيَّنة دون أن يتضرر (ب) فإن المجتمع يكون في وضع أفضل ويتَّجه منحنى الرفاه في المجتمع إلى أعلى وتعم المكاسب الجميع. وفي هذه النظرة يتعامل علم الاقتصاد مع الواقع، بالضرورة، متطلِّعاً، أيضاً، إلى الوضع الأمثل.
وإذا فسَّر البعض هذا الطرح الاقتصادي النظري على أنه سفسطة فكرية أو ترف علمي يصعب تطبيقه على أرض الواقع بكل ما يحتويه من تناقضات وتحدِّيات وعقبات، إلا أنه يظل يعبِّر عن القدرة العملية لعلم الاقتصاد على مواجهة إفرازات الواقع عبر نهج التخطيط الذي يمكن أن يتعامل معه بالاستناد إلى المؤشِّرات والإحصاءات وإسقاطها لبناء رؤية مستقبليَّة ترتكز على الأصول العلمية الأساسية بالتأطير أو بالتأشير وفق متطلَّبات كل مرحلة وتداعيات كل حالة. وقد عكست بعض النظريات الاقتصادية هذه القدرة العملية لعلم الاقتصاد في التعامل مع الواقع والمحافظة على زخم التطلُّع نحو الوضع، أو الحل، الأمثل في المستقبل المنظور والمأمول على حدٍ سواء. ولعل نظرة الاقتصادي النيوزيلاندي فيليبس إلى العلاقة بين معدَّلات البطالة والتضخُّم بمدلولاتها العملية من واقع التجربة تُؤكِّد على ذلك وتطرح نظرة عملية ترصد الواقع وتُنظِّر للمستقبل. وفي هذه النظرة يتعامل علم الاقتصاد مع الواقع ويبرهن بالتجربة على أن التعامل معه بموضوعية يمكن أن يقود إلى الوصول إلى الحل الأمثل.
رئيس دار الدراسات الاقتصادية - الرياض