يروي الدكتور جلال أمين في كتابه (رحيق العمر) - وهو امتداد لكتابه: (ماذا علمتني الحياة) بوصفهما «سيرته الذاتية» - أنه حضر احتفالاً في لندن للعيد التسعين لميلاد (برتراند رسل 1872-1970م)، وفيه قراءة أحدث كتب الفيلسوف البريطاني الشهير معنوناً ب»أقصر كتاب في تاريخ العالم»؛ لم يزد على هذه العبارة - كما ترجمها ابن صاحب «فجر الإسلام وضحاه وظهره» الأستاذ أحمد أمين 1878- 1954م -:
(منذ بدء الخليقة لم يمتنع الإنسان عن ارتكاب أي حماقة كان قادراً على ارتكابها).
هذا هو الكتاب الذي ألَّفه «رسل» عام 1962م، أو هكذا صُوِر الأمر؛ لتبقى الجملة معبرة عن قراءة صادقة في جانب، قاصرة في الجانب الآخر؛ فالتاريخ عقل وجنون، وعلم وجهل، وعِيٌ ووعي، وظلم وعدل، وعجز وإعجاز.
يبتسم التاريخ لمن يعرف مداخله، ولا يبلغ مخارجه؛ فيظل داخل حركته الدؤوبة، والعرب نفذوا إليه يوماً من باب واسع ثم غادروه من أبواب ضيقة متفرقة، وأُغلق دونهم؛ فعاشوا - منذ قرون - في التيه يتسولون مدلفاً فلم يجدوا حتى نافذة.
المشكلة هنا أننا وعينا، مثلما وعى أبناؤنا، تاريخاً كله انتصارات؛ فمنذ الفجر حتى الظهر ونحن أمة يقودها التفوق إلى التفوق، حتى إذا لمسنا - بفهمنا - «تراجعات» تمت خلال تلك المرحلة قيل لنا: إنكم لا تفهمون؛ فإذا تواترت المرويات قيل: إنهم يفتئتون، وحين نُمنطق الأشياء - وفق قواعد الكون - قيل: ما بالكم تفسدون التاريخ؟!
في تاريخنا، كغيرنا، أخطاء وخطايا يمتنعون عن الإقرار بها، ويصار إلى تغييب العقل حين يجزمون أنه الاجتهاد؛ فكلهم على خير؛ فليكن، ولكن: أليس من حق الأجيال أن تحاكم مسيرتها المتعثرة؟ أو ليس في لعبة التاريخ ما يأذن بخطط جديدة تستوعب الخلافات والحروب والمغامرات والمؤامرات والعمالة والطمع والاستخذاء والادعاء كيلا نعزف على موسيقى جنائزية تشبه مشاهد التأبين الافتعالية.
كنا نود أن نقول: إنكم تعلموننا الخطأ وتحيلونه إلى صواب؛ فلا نجرؤ إلا على تأجير عقولنا بعقود مفتوحة، فإذا اتصل الأمر بتاريخ الأجانب من «الفرنجة»- كما أسميتموهم - بانت الندوب والعيوب والخلل والزلل.
التاريخ ليس مخدراً نهرب به من الواقع المأزوم والمهزوم، بل هو ضوء نجمة وظل غيمة يعطينا المشروعية والمناخ لمحاكمات وأحكام؛ فلعلنا نخرج بها من ظلماء النفاق والأنفاق، والأمة الجديرة بالحياة لا تسترخي لأبواق المطبلين.
لو استوعبنا تاريخنا لما شطرنا «الكسرويون» إلى فرس وعرب، ولما توازعنا «القيصريون» بين جواسيس وعملاء وإرهابيين، ولما استهلكْنا طاقاتنا في استفهامات بلا معنى، وإجابات دون مبنى، وفضائيات التحريم المغلق، والتحليل المطلق، وحوارات الفرقة المصطرعة على لون الماء.
نحن أمام طريقين؛ إما أن نلغي التاريخ ونبدأ من جديد، أو نأذن بإعادة قراءته دون وصاية واستباق نتائج، وبينهما لا مكان للمسكنات والمسكتات.
الماضي أرصدة وديون.
Ibrturkia@gmail.com