تواجه المجتمعات في عالمنا اليوم تحدياً يكمن في قدرتها على التنافس وتحقيق عائد على نشاطاتها يترتب عليه نموها التكويني والمعرفي ويمنحها سعة في رغد العيش، هذا التنافس هو سبيلها لتمكين أفرادها ومؤسساتها من التناغم في الهدف والتجانس في المجهود لخلق قيمة حقيقية لمنتجاتها من السلع والخدمات، فمجتمعات عالم اليوم مترابطة وتتبادل فيما بينها ليس فقط ثقافتها ومعرفتها.. بل منتجاتها، وكل بينها يجهد في تحقيق أعظم فائدة له من هذا التبادل الذي به تكون الثروة الوطنية التي تتوزع على المواطنين في صورة قدرة على الاستمتاع والانتفاع بما تقدمه مؤسسات المجتمع.. وما يستورد من المجتمعات الأخرى من سلع وخدمات، وبقدر ما يكون المجتمع قادراً على إنتاج خدماته وسلعه ضمن نوعية وتكلفة منافسة تكون قدرته على تسويق تلك المنتجات وتحقيق المنفعة من ذلك، هذا هو تبسيط لما يمكن أن يُسمى الاقتصاد الكلي للمجتمع.
كيف يمكن لمجتمع تحقيق اقتصاد كلي قوي قادر على جلب منفعة عظيمة لذويه؟.. ذلك سؤال المليون دولار كما يُقال، فالإجابة عليه قد تكون بديهية للوهلة الأولى.. وهي تحقيق قدرات إنتاجية عالية، ولكن عند الاستطراد يقف سؤال أرفع هامة.. وهو كيف يكون ذلك؟.. أيضاً قد يكون الجواب مختزلاً في رفع القدرات الإنتاجية للأفراد والمؤسسات واستغلال الموارد الطبيعية وتفعيل القدرات السياسية والجغرافية، مرة أخرى تتصاعد أسئلة الكيف وينتقل التركيز على أسئلة آليات تطوير الاقتصاد الجزئي، ولنقل إن لدينا في هذه الدولة العتيدة استغلالاً أمثل لمواردنا الطبيعية وقدراتنا السياسية والجغرافية بها حققنا عائداً عظيماً، ولكن ما بال قدراتنا الفردية والمؤسسية غير متجانسة مع قدراتنا الأخرى.. وهي مصدر تحدينا الحقيقي.. فبها تكمن استدامة قدرتنا على تحقيق التنمية.. ولا شك أن هذا عائد لعدد من التحديات التي منها التأهيل التقني والإداري للموارد البشرية الوطنية، لكن هناك تحدياً هاماً يتمثَّل في توظيف فعالية تلك الموارد البشرية بصورة اقتصادية ومؤثرة لتنمية التنافسية التي ننشدها، هذه الفعالية يمكن أن تُغذى بالبيئة التي تحكم طبيعة العمل.
التقديم السابق لازم لأعدد في طرح أن الاختلاط كبيئة عمل هو أحد عوامل تنمية التنافسية.. وذلك من خلال توفير فرص عمل لعدد أكبر من القادرين على الإنتاج من الجنسين، ويكون ذلك في الحد من التكاليف المتحققة من فرض واقع مفصول للعمل الذي يمثِّل هدراً لفرصة تعظيم استخدام موارد الإنتاج، ففي الواقع المفصول تكون الحاجة لازدواجية في المعدات والوظائف الإشرافية والمرافق.. وهو ما يُمثِّل تكلفة تعيق أي جهود للسيطرة على التكاليف، هذا من جانب ومن جانب آخر يُمثِّل الواقع المفصول حرماناً حقيقياً لفرص العمل لقطاع كبير محتاج ومؤهل من الجنس الآخر يتم الاستعاضة عنه باستقدام عمالة أجنبية لا تستنزف الموارد المالية بتحويلها خارج البلاد فقط.. بل تمثِّل عبئاً اجتماعياً وتنظيمياً وأمنياً على البلاد.
في قول سابق لي أبديت أن الكسب بعائل واحد للعائلة السعودية يمثِّل تهديداً لاستقرار وهناء تلك العائلة.. فبمجرد تعذُّر الكسب على معيل العائلة أو غيابه ينقطع الكسب وتصبح العائلة رهينة العوز والفاقة ولا سبيل لخلاصها من ذلك إلا بتعديل هيكلي ربما يكون مؤلماً وباعثاً لتفككها ما لم يكن هناك سبيل لحصول فرد آخر في العائلة على كسب تعويضي.. وفي معظم الأحوال يكون هذا الفرد امرأة، لذا يمكن أن يكون في تهيئة بيئة الاختلاط توفير فرص عمل كريمة لمن هذه حاله.
ليس هناك حاجة لتبرير قيام الاختلاط في بيئة العمل لدينا بالاستشهاد بما هي عليه الدول المتقدمة والتي تحقق تميزاً تنافسياً في اقتصاداتها.. فلدينا من الأمثلة الكافية للاستشهاد به من تاريخنا وطبيعتنا، ففي جنوب وشرق وشمال وغرب ووسط المملكة من الشواهد على تضافر الرجال والنساء في أعمال مشتركة تتمثَّل في الزراعة والتجارة والحرف، ولكن ما اختلط على كثير من الناس في محذورية الاختلاط هو تلبيس الاختلاط بالسفور واعتقاد البعض أنهما متلازمان فأحدهما محقق للآخر.. وهذا لا شك غير صحيح.. فالاختلاط لا يستلزم السفور ولا يدعو له.
لذا في ختام مقال هذا اليوم من ينظر للاختلاط كمحذور، أن يتدبر في مسألة حجية جلب المنافع مغلَّب على درء المفاسد أو عكسها.. وتقييم المفاسد المستشعرة والمصالح المتوخاة بمنظار واقعي يخلو من التهويل والتعظيم ويتجنب التوجس والخوف وينظر لجميع الحالات والتجليات الاجتماعية التي يمكن للاختلاط التأثير فيها.. وأن لا يغلِّب حالة ويعطيها وزناً أكبر بحيث تكون هي المعيار وهي الحجة.
M900m@gmail.com