موقف المسلم من الوفاة واحدٌ من اثنين، إما ذلك الذي تتحكّم فيه العاطفة وهوامش بعض التصوُّرات وما يعتقده الإنسان في بعضه، أو أن يحكمه من العقيدة معطيات وتوجيه ينتصر فيها الإنسان من خلال إيمانه بحقائق
مقدّرة وبكل ما جاء به الدين شاملاً كاملاً، ومع ذلك فإنّ الوفاة هجرة بلا عودة من عالم الدنيا إلى حياة الخلود يحسُّ معه الأحياء أنّ فرداً قد غاب ولن يأتي، وقد توقف عطاؤه وجهده على هذه الأرض.
وهكذا يتمثّل المشهد بوفاة المفكِّر الفيلسوف محمد عابد الجابري، إنه قيمة فكرية أعطت للمكتبة العربية إضافة من فكر، ومزيداً من رؤى اجتهد من خلالها وأبدع كما يراه البعض والعكس من ذلك كما يراه البعض الآخر، ومهما اختلفت الآراء حوله فإنّ صومعته الفكرية وعدد مؤلّفاته وسيلة نقيّم بها الرجل والوقت ومساحة الفكر المتعدّدة.
إنّ الموت حقيقة ثابتة لا ينكرها مسلم أو كافر، والسر في تلك الحقيقة أنها عدلٌ والقضاء فيها مجهولٌ في ساعته ومكانه وزمانه، نخشى الموت ونخافه، والمجهول قد يكون وافر الرحمة لا سيما إذا تذكّرنا أنّ سورة الفاتحة فقط تتردّد فيها الرحمة مرات عدّة تبشِّر بالرحمة والوعظ الكريم، حيث قال سبحانه وتعالى: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ?، وإذا كان هذا معنى من معاني الرحمة فيجب أن لا ننسى عقابه الشديد لمن يستحقه.
إنّ الإنسان بين الخطأ والصواب لملاقٍ مصيره، وقد أحسن من استوعب المسؤولية ومكانه من الواجب حيث قال سبحانه وتعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?، كما انّ الإنسان مكلّف بأعباء الرسالة، والخلافة في الأرض، فأي تكريم يضاهي هذا التكريم الذي أعطى للإنسان اعتباراً بيّنا لا يحدُّه إلا النتائج لهذه المهمات العظيمة، وأظن أنّ المفكر المسلم محمد عابد الجابري شارك مع خلق الله في أداء هذا الدور، وتشهد له مؤلّفاته التي آخرها (الاجتهاد في فهم القرآن).
لقد توفي - رحمه الله - وهو في رحاب ربه تعنيه الآية التي نصّها: ?فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ? (22) سورة ق.
والموت قضية تعقيدها مركب، ويكفينا استيعاب أهم معاني الموت، وهو الفراق، ومتى استوعبنا هذا تخف المعاناة فنسمو بمشاعرنا وفق ما يرضي الخالق ويطمئن النفس، فسبحان من خلق ومدّ الإنسان بروح منه فتكون الحياة، ويأخذ ما أعطى يوم يشاء ويقدّر.
إنّ في سنن الحياة كل العزاء والعطاء الذي يأنس به الإنسان إن كان حياً أو ميتاً، فالرحمة على محمد عابد الجابري ولأهله ومحبيه وأبنائه كل العزاء، والحمد لله من قبل ومن بعد.